الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
المشروع القومى للأخلاق

المشروع القومى للأخلاق






لا بد وأنك قد تابعت الأداء غير المرُضى لمنتخبنا الوطنى، والمنتهى بالنتيجة المنطقية لما تم تقديمه، وحتمًا إنك تابعت ردود فعل الجمهور الذى التف حول حافلة الفريق موجهًا السباب للاعبين فى الوقت الذى تم تصويرهم فيه لينتشر مقطع السباب عبر شبكات التواصل الاجتماعى فارضًا نفسه على كل بيت مصرى وعربى، كما لو كان السب وسيلة لتغيير النتيجة، أو لتحفيز المنتخب فى المستقبل لأداء أفضل. الحقيقة أن ما حدث لم يكن سوى طَوق نجاة للمنتخب أمام العالم الذى سيفهم الرسالة بأن منتخبا هكذا أخلاق جمهوره لا بد أن تكون هكذا نتائجه.
 ما حدث لم يكن رد فعل طبيعيا لحالة استثارة جماهيرية إنما انعكاس لأزمة أخلاقية عميقة باتت تمثل خطورة قومية وتهديدًا للسلام الاجتماعى، بعدما عكست استباحة عامة للسمعة والكرامة من المواطن تجاه المواطن لتتحول إلى أسلوب حياة للمعاملات اليومية بين المواطنين وبعضهم البعض، وبينهم وبين الدولة ومؤسساتها.
لا أتحدث هنا عن المدينة الفاضلة أو عن حالة أخلاق أسطورية، بل اتحدث عما هو أخطر، عن أسلوب التواصل والتعامل اليومى فى المجتمع المصرى الذى أصبح يفتقد لأبسط قواعد الذوق العام، بل وصل إلى مرحلة تشويه اللهجة العامية عمدًا مع سبق الإصرار والترصد للتعبير والمجاهرة والتفاخر بالانتماء لطبقة اجتماعية معينة دائمًا ما تضع نفسها فى حالة مواجهة وهمية مع باقى طبقات المجتمع تفرز سلوكًا متحفزًا لكل من هو مختلف عنها شكليًّا أو موضوعيًّا، إما بالاستخفاف أو الاجتناب أو الاتهام بالاستعلاء، وبالتالى يتم تصنيع مساحات من الجفاء الاجتماعى بين أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض تنعكس على أسلوب التعامل اليومى بقسوة غير مبررة لمجرد تخوف كل طرف أن يكتشف من يتعامل معه مواطن ضعفه فلا يرحمه.
 تخيل أن يصل الأمر إلى حد المنطق المعكوس فتجد مصطلحات أصبحت تستخدم بمعناها العكسى مثلاً: تعبير «ابن بلد» الذى كان يُعبر عن منظومة من الأخلاق تشمل الشهامة والمروءة والكرم والعطاء، قد تحول إلى مصطلح يعبر عن حالة من البلطجة ليتم استخدامه بشكل طبقى للتحقير من فئات مجتمعية لمجرد أنها سلكت سلوكًا يتسم بنوع من الرقى أو الهدوء وعدم الانفعال.
تخيل أن يتحول احترام الآخر إلى نوع من الضعف أو وسيلة لأن تصبح فريسة مستباحة من الآخرين، تخيل أن يتحول الاحترام من قيمة إلى وسيلة لاتقاء شرور الآخرين!
تجول في الشوارع، واستمع إلى كم الألفاظ الخارجة التي تُستخدم تعبيرًا عن الغضب أو المزاح وأحيانًا للتعبير عن المودة والصداقة الحميمة لتعكس خللاً فى منظومة الألفاظ التى تعبر عما يجول فى الذهنية المجتمعية العامة.
ومن المدهش أن تجد انجذابا جماهيريا لبعض الشخصيات التى تمثل انحرافًا أخلاقيًا عن المألوف اجتماعيًا، بل تصبغها بالتميز وتصفها بقوة الشخصية والقدرة على المواجهة لا لشيء سوى لاستعدادها للتطاول السريع على الآخرين الذين أصبحوا يتجنبون التعامل مع مثل تلك النماذج، تخيل أن تجد تلك النماذج لنفسها حيثية مجتمعية تمكنها من الاستمرار على نفس نهجها العبثى لتتحول بمرور الوقت لنماذج قادرة على خلق القدوة السيئة.
بمرور الوقت أصبح هذا السلوك أسلوب حياة مستأنسا دعمته فئات اجتماعية، فتحول إلى شعور من الاستمتاع بقهر الآخر والاستقواء عليه لمجرد الشعور بتحقيق الذات على حساب كرامة الآخرين، هذا ما يحدث عندما يتخيل البعض أن الغلظة وسوء الخلق يمكن أن يكونا وسيلة الإدارة أو التواصل الإنسانى.
 هنا لا نستطيع أن ننكر أن ذروة الأزمة قد انفجرت عام ٢٠١١ عندما راحت مجموعات ونخب تروج بكثافة للتحلل من أى قيود قانونية، باعتبار ذلك يندرج ضمن مطالب الحرية، وقتها حدث ما يمكن تسميته بالإهدار المتعمد لقيمة الكبير، لتصبح الدولة ومؤسساتها حينئذ بلا صاحب، إلا أن من روجوا لذلك طالتهم نار ما روجوا له، عندما وجدوا أنفسهم فى مواجهة مجموعات تستمتع بحالة من عدم الالتزام الأخلاقى ويسعون لممارستها نحو الدولة، وليس فى معاملاتهم الشخصية فحسب، شجعهم على ذلك شبكات التواصل الاجتماعى التى حولوها لشبكات للتنابذ بالألفاظ والألقاب أدت لخلق حالة شجاعة وهمية يمارسها أشخاص من وراء شاشات المحمول أو الحواسب الشخصية، بينما هم فى الواقع عاجزون عن مواجهة حتى أنفسهم، إلا أنهم لا يكفون عن محاولات فرض عالمهم الافتراضى اللاأخلاقى على المجتمع وعلى الدولة.
أضف إلى ذلك ما وصلت إليه حال المجتمع الذى أصبح أفراده يتمتعون بقدرات غير مسبوقة لتقييم كل الأشياء وكل الأشخاص إلا أنفسهم، يجاهرون بوضع الخطط والحلول والاستراتيجيات لأكثر المشكلات تعقيدا، بينما يعانون من الفشل الممنهج فى إدارة ذواتهم، والأخطر أن يتجاسر بعضهم بالظهور على الشاشات لتصدير أوهامه للجمهور الذى يستمتع بالقدرة المذهلة على الحلول البسيطة ثم تنشأ بداخله حالة عداء لدولته التى تعزف عن إنجاز هذه الحلول السهلة والمتاحة، ثم تنسحب هذه الحالة إلى سلوك خشن تجاه كل من هو محسوب على الدولة بداية من الموظف الصغير حتى رأس الدولة، إلى أن وصلنا إلى حد توجيه الاتهام والاغتيال المعنوى لبعض الشخصيات بادعاء كونها عميلة لدولتها ولأجهزة وطنها لمجرد أنها تساند وطنها فى السراء والضراء.
 الآن لم يعد هناك وقت لإنكار ما وصلت إليه حال الأخلاق بالمجتمع المصرى إلى حد أصبح يهدد السلام الاجتماعى وينعكس بالسلب الشديد على علاقة المواطن بمؤسسات وطنه بعد أن سيطرت عليه حالة غير أخلاقية أوهمته أنه قادر على العيش  الكريم دون الالتزام بالقانون أو بالقواعد أو حتى الأعراف المنظمة للعلاقات بين الأفراد.
الحقيقة تقول إن الأوطان لا تترك للضمائر العامة لتبنيها، لكن القانون يهذب تلك الضمائر ويبنى الدول.
الآن لم يعد هناك وقت للتأخر عن فرض  المشروع القومى للأخلاق التى وصلت لحالة تهدد السلام المجتمعى، وإذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسى تحدث بوضوح خلال خطاب التنصيب للولاية الثانية عن بناء الإنسان فإن هذا البناء لا بد وأن يقوم مشيدا على قواعده الأخلاقية.