
حازم منير
«سناتر» طبية
«معظم النار من مستصغر الشرر» مثل قديم تناقلته الأجيال يحذرنا من التهاون بصغائر الأمور قبل أن تستفحل وتتحول إلى أزمة كبيرة تصيبنا بأضرار فادحة ونتحمل تكلفة عالية لمحاصرتها وربما نتحمل أيضا إهدار حياة أبرياء لا ذنب لهم سوى أن صغائر الشرر أصابتهم بعد أن تحولت إلى نيران تلتهم كل ما حولها.
الأمثلة كثيرة ومنها العشوائيات التى ننفق الغالى والنفيس الآن للقضاء عليها ويعلم الله وحده متى ننجح فى عملية تحويل ثقافى لمتضرريها، ومنها أيضا «السناتر التعليمية» التى أصابت التعليم المصرى فى مقتل، وأحالت العلم من المدرسة إلى «السنتر».
المراكز التعليمية الشهيرة بـ«السناتر» بدأت بدرس خصوصى فى المنزل مع تلميذ فى بيته، ومع انتشار موضوع الدروس الخصوصية وضيق الوقت بدأ التفكير فى توسيع المجال لتلميذين معا، ثم ثلاثة وبعدها أربعة، وظلت الدائرة تتسع حتى تحولت إلى «سناتر» كل سنتر فيها مدرسة بكل معانى الكلمة.
الحاصل الآن أننا أمام ظاهرة جديدة هى «السناتر» الطبية، وربما لا تكون جديدة الله أعلم متى بدأت، وإنما الشاهد الآن أنها منتشرة بعد أن استغل القائمون عليها مسارات قانونية لعمل غير قانونى وبمعنى آخر هو فعل قانونى يراد به باطل.
الفكرة بسيطة للغاية، يقوم شخص باستئجار مكان وتعيين إداريين فيه ويتفق مع أطباء لتبادل الحضور على المكان والتعامل مع الحالات المرضية كأى عيادة خاصة، ويُحصل الإداريون كشف الفحص الطبى ويتسلمه صاحب المكان ثم يقوم بعد ذلك بمحاسبة الأطباء يوميا أو أسبوعيا أو شهريا.
لم يقتصر الأمر على ذلك وإنما اتسع مداه لاستغلال أوضاع قانونية كغطاء لتنظيم نشاط سنتر طبى فى إطار عمل خيرى بأسعار مخفضة بينما يحصل من المرضى على أسعار أطباء العيادات الخاصة الباهظة الكلفة، ويستفيد من إعفاءات ربما تجيزها أوضاعه القانونية.
الشاهد أننا أمام حالات ربما تكون محدودة، لكن أى ظاهرة سلبية تبدأ محدودة وتأخذ فى الاتساع مع التهاون فى تطبيق القانون أوالتعامل معها باستهتار باعتبارها مازالت محدودة ولا تُشكل ظاهرة أو أزمة أو تُثير الرأى العام، وهو منطق المثل الشعبى الشهير لأنها ستتحول مستقبلا إلى كرة من اللهب تمثل عقبات ومصاعب أمام الدولة.
نحن أمام إعادة إنتاج لظاهرة العشوائيات التى تبذل الدولة المصرية جهودا مضنية لمحاصرتها وتداعياتها والقضاء عليها لحماية البشر وموارد الدولة والخدمات التى تقدمها ولحماية المال العام من الإهدار، وهى نفس حالة الدروس الخصوصية التى بدأت بتلميذ وانتهت إلى مدارس موازية.
هذا ليس بلاغا إلى جهات التحقيق، وليس بلاغا إلى الأجهزة الرقابية، وليس بلاغا لنقابة الأطباء، إنما هو مجرد مقال يرصد ملاحظة ويحذر من انتشارها وتداعياتها فى المستقبل، وتأثيرها على مهنة الطب وتحويلها من بند «قسم ابقراط» الإنسانى إلى شعار البيزنس الشهير «دعه يعمل دعه يمر» للمفكر الاقتصادى آدم سميث .
أخشى أن نتنبه بعد فوات الآوان للمرة الثالثة لما لم ننتبه له فى المرتين السابقتين من معانى حكمة المثل القائل «معظم النار من مستصغر الشرر».