الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
العودة إلى الدولة

العودة إلى الدولة






قراءة سياسية فى فلسفة التعديلات الدستورية

 

فى تعريف الدستور يقال إنه مجموعة الأحكام التى تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وسلطاتها، وطريقة توزيع هذه السلطات واختصاصاتها وحقوق المواطنين وواجباتهم.
بهذا المفهوم يكون الدستور هو الإطار القانونى للعقد الاجتماعى الذى بموجبه يتخلى الأفراد بشكل ضمنى أو صريح عن بعض حقوقهم أو حرياتهم لسلطة الحاكم، مقابل حماية باقى الحقوق، وتنظيم العلاقات بينهم.
إذن الدستور هو إطار طويل المدى لحياة مستقرة لأطراف العقد الاجتماعى، وعلى هذا النحو لا يمكن أن يكون هناك استمرار لما يسمى «دستور الضرورة» أو «الدستور الانتقالى»، فإذا وجد هذا الدستور فى فترة من فترات عانت فيها الدولة من الفوضى العارمة إلى درجة الانهيار، فإنه لابد أن يحمل فى مواده ما يشرع تعديله اتساقاً مع قدرة الدولة على تجاوز مرحلة الفوضى إلى مرحلة تثبيت أركانها ومؤسساتها.
فى هذه الحالات لا نكون بصدد «تعديل» بالمعنى المادى البسيط، بل نكون بصدد عودة حقيقية إلى أصل الدولة وإلى أصل عقدها الاجتماعى، الذى تكون فيه السلطة الحاكمة أثبتت بالفعل قدرتها على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية، لننتقل من مرحلة «الوعد بالعقد» إلى مرحلة «العقد الملزم».
■ ■ ■
ونحن بصدد الحديث عن الدستور الحالى لابد من العودة إلى ظروف نشأته لنتذكر أنه إحدى خطوات خارطة طريق فرضها ظرف استثنائى لإنقاذ الدولة.. وبالتالى فإن التحليل الواقعى يقول ما يلى:
ـــ دستور 2014 هو حالة إجرائية اضطرارية أكثر من كونه وثيقة حاكمة.
ــ دستور 2014 صدر فى فترة لم تتعاف فيها الدولة، ولم تنه نقاهتها السياسية، وبالتالى صدر باعتباره «مسكنًا قانونيًا» وليس كعلاج دستورى حقيقى.
ــ دستور 2014 صدر فى زخم حالة «اللا دولة»، وبالتالى فإنه افتقد لأهم مقومات صدوره وهو وجود الدولة الثابتة.
ــ دستور 2014 صدر من أجل المساهمة فى إنقاذ الدولة، فلما تعافت الدولة لم يعد قادرًا على الإحاطة بها باعتباره إطارها القانونى، بل تمددت الدولة وتدفقت حول تدفقها الطبيعى بعد أن أصبحت قادرة على التصدى لكامل مسئولياتها ولكامل مؤسساتها.
ــ لا نتجاوز إذا قلنا أن دستور 2014 قد صدر من أجل إعادة بناء حالة الدولة، وبالتالى فإن اكتسابه لصفة الاستثنائية المؤقتة هو أمر واقع فرضه الظرف الواقع ساعتها.
ــ حالة الإدراك العام بل والإدراك المصنع بفعل الإعلام الذى كان يجاهر بضرورة تمرير هذا الدستور باعتباره إحدى أدوات تأكيد الإرادة الثورية على وجه السرعة، والآن أصبحت الحاجة ملحة لدستور يؤكد إرادة الدولة بعد أن تجاوزت مرحلة الفعل الثورى المؤقت.
■ ■ ■
لا نستطيع القول إن دستور 2014 قد حظى بحوار مجتمعى ناضج، بل المفارقة أن من عارضوه وقتها هم أنفسهم الآن من يعترضون على تعديله اليوم!
فلنلتق على أرضية الرافضين للتعديلات الدستورية المقترحة لنتساءل عن حجم قدرتهم على فرض رأى عام مؤثر سيؤدى لرفض التعديلات؟ - ليس هذا فحسب - بل قدرتهم على تنظيم هذا الحشد وتوجيهه نحو عملية تصويت خلال الأيام المتاحة، ليثبت الرافضون ليس فقط قدرتهم على الإقناع الجمعى بفكرة صائبة، بل قدرتهم على تنظيم هذه الجموع نحو الفعل المادى القادر على فرض إرادة فكرتهم.

لا يمكن أن يستقيم أمر الدولة طالما ظلت المعارضة أو من يصفون أنفسهم بالنخبة مصرون على الدخول فى معركة صفرية مع الدولة، لا يمكن أن يستقيم أمر الدولة طالما تواصلت حملات تسييس القانون أو الدستور.
فالقوانين والدساتير وضعت لضبط الأداءات المختلفة داخل الدولة.. القوانين إحدى أدوات الدولة وليست إحدى أدوات الدخول معها فى حالة ندية.
السياسة هى أفعال واقعة ليس من بينها الانتصار على الدولة.. السياسة لا يمكن أن تمارس فقط فى مساحات النسيان التى تأكل ذاكرة المصريين، ولا يمكن أن تمارس فى مساحات تقلب المزاج العام.
■ ■ ■
أذكركم ونفسى بالوضع السياسى فى مصر خلال أربعين عامًا مضت لعلنا نقف على الملامح التالية:
ــ عملية تجريف إنسانى أدت إلى نضوب سياسى أفضى إلى عدم إفراز أى كوادر.
ــ أحزاب ورقية تلقت تمويلًا من الدولة على مدار سنوات طويلة.
ــ قوى يسارية وناصرية تحالفت مع الإخوان ضد مدنية الدولة.
ــ قوى سياسية غابت عن النقابات وتركتها للإخوان.
ــ قوى سياسية منفصلة عن الشارع وعن الشباب.
ــ انفتاح إعلامى لم تتمكن الأحزاب من استقلاله.
ــ شخصيات شفوية تحتل صدارة المشهد منذ أحداث 18 و19 يناير 1977 تردد نفس الشعارات.
ثم نتقدم تاريخيًا إلى عام 2011، حيث كان نجوم النخبة يمارسون طقوس العمل السياسى غير محدد الأهداف فى ظل إحساس بحالة انتصار ثورى جعلتهم يتخيلون إمكانية ممارسة السياسة من مكانة ما فوق الدولة، ساعتها راحوا جميعاً وبلا مواربة يساندون الإخوان سرًا وعلانية بتقنين وضع إقصائى ديكتاتورى عُرف باسم «قانون العزل السياسى» الذى طعن على دستوريته وتم إلغاؤه.
نفس هذه النخب الآن تحاول ممارسة عملية لعزل المواطن عن فكرة الدولة، نحن أمام حالة أشبه بعملية تنويم مغناطيسى سياسى تتلاعب بمشاعر المواطن وآلامه، لو أن الجهد المبذول لإنهاء هذه الآلام يتساوى مع جهود التلاعب بها، وعليها كلنا قد وصلنا لمشروع سياسى قادر على طرح نفسه كبديل سياسى لإدارة الدولة.
المتحدثون عن التداول السلمى للسلطة لا يتحدثون عن الأطراف التى تصلح أو تملك جراءة الإقبال على هذا التداول، فالحديث  عن التداول بلا متداولون هو نوع من العبث السياسى بمصير الشعوب.
ليطرح السؤال نفسه.. كيف يمكن أن تترك الدولة لمزاج أو لتجارب مجموعة من الهواة عام 2019 أو ما بعد ذلك؟!
■ ■ ■
الآن فلنتحدث عن مدنية الدولة، لنكتشف عن المفارقة المدهشة أن من يتحدثون عن هذه «المدنية» من رافضي التعديلات الدستورية يستخدمون أدوات تحريضية ضد هذه التعديلات، تخيل أن مدعي المدنية التقوا مع تيارات الإسلام السياسى على أرضية مشتركة تستبيح استخدام المكون الدينى فى السياسة.
ثم دعونا نتساءل عن تصوراتهم لمشروع دستور بديل يضمن مدنية الدولة ويكفل صيانة مؤسساتها وأمنها القومى، ويضع إطارًا قانونيًا محددًا لسلطاتها، أين إذن هذا المشروع منذ عام 2011؟! وكم نحتاج من الوقت لصياغته؟ وما هى كلفة استمرار الدولة بلا هوية قانونية تضع إطارًا محددًا للحقوق والواجبات والمسئوليات والسلطات؟!
فإذا كانت إجاباتهم الجاهزة والمتكررة هى تسلط الأنظمة أو سيطرة الجيش على المشهد.. فإن تلك الإجابة تطرح سؤالاً بديهيًا.. أين كان هذا التسلط؟ وأين كان الجيش عندما اختاروا بإرادتهم الانقسام والانشطار إلى مئات الائتلافات عام 2011؟!
ما الذى أدى بهم إلى تسليم الدولة طوعًا وكرهًا إلى التنظيم العصابى الإخوانى؟ ثم راحوا ينادون على الجيش لإنقاذهم! هل كان النداء على الجيش حينها باعتباره قوة عسكرية تستدعى للتدخل فى الشأن السياسى، أم باعتباره الأمين على وجود الدولة ومدنيتها.
الانتخابات الرئاسية فى 2012، كان أن جرى «منع قسرى» على أساس الهوية الطائفية فى عدد من المحافظات لمنع المواطنين الأقباط من الإدلاء بأصواتهم، مستغلين ظروف الفوضى التى كانت فيها البلاد وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها مع صعوبة التحديات، انفرد تيار الإخوان وأتباعه من روافد الإسلام السياسى لمنع مواطنين مصريين من حقهم فى التصويت وممارسة حقوقهم السياسية، الأمر كان لافتًا بعد 30 يونيو تعافت الدولة، وتولى الجيش مهامه ومسئولياته فى تأمين كل الاستحقاقات السياسية، وكفل حق المواطن فى ممارسة هذه الحقوق دون تدخل أو توجيه، بل وحدها القوات المسلحة هى التى تولت تأمين اللجان ونقل بطاقات الاقتراع والقضاة بل وصناديق الاقتراع وحمايتها من المساس بها حفاظاً على الإرادة السياسية للمواطنين، فإذا كانت المشاركة  السياسية وممارسة الحقوق السياسية بحرية تامة هو أصل مدنية الدولة، فالمؤكد أن القوات المسلحة هى التى صانت وتصون هذه المدنية وتحافظ على هوية الوطن وحقوق مواطنيه وإرادته السياسية  هى أسمى المهام وأعلى الواجبات التى تتولاها القوات المسلحة والمصانة والمحصنة فى التعديلات الدستورية.
■ ■ ■
بلا مواربة نتحدث عن تعديل المدد الرئاسية، التى وفقًا للصيغة النهائية لم تزد بل طالت بما يتوافق مع حق أى رئيس جمهورية فى قضاء فترتين كافيتين لتحقيق برنامجه الانتخابى، مداولات ونقاشات ممتدة وحوار مجتمعى حقيقى على مدار الأيام الماضية، كشف فيما كشف كذب إدعاءات الإخوان وآلاتهم الإعلامية، وأن هذه التعديلات لم تكن سابقة التجهيز بل إن البرلمان فى جلساته وحتى آخرها ظل يناقش كل الأفكار والأطروحات حتى المعارض منها وأخذ بالأحوط.. فنحن أمام مادة تسمح للرئيس الحالى أن يمد مدته الحالية إلى 6 سنوات ويمكن بعدها الترشح لمدة واحدة فقط بعدها تنتهى فى 2030 وهو التاريخ الذى يتوافق مع رؤية الرئيس والدولة مصر 2030؛ ليستطيع معها إنجاز هذه الرؤية، وهو أمر لا ينسحب على الرئيس الذى يليه الذى سوف يكون ملتزماً بمدتين رئاسيتين فقط كل منهما 6 سنوات.
■ ■ ■
التعديلات ستشمل عودة مجلس الشورى بمسمى مجلس الشيوخ فنحن بصدد إضافة بيت خبرة للبنيان التشريعى للدولة المصرية، وكيان يستقطب الطاقات والقامات العلمية من أجل تمكينها من دور تشريعى يضمن دستورية القوانين المقترحة وانضباط صياغتها.
مجلس الشيوخ سيكون الإطار الضامن لدقة وإحكام كل ما يتعلق بالمعاهدات التى تمس السيادة المصرية.
الغرفة البرلمانية الثانية هى وعاء للخبرات المضافة للبنيان التشريعى، مما يساهم فى جودة المنتج التشريعى وهو أمر مأخوذ به فى النظم السياسية المستقرة التليدة.
■ ■ ■
مقترحات تعديل الدستور منتظر أن تشمل مواد لضبط الأداء الإجرائى الخاصة بالعمل القضائى، ولا يمكن هنا القول أنها انتقاص من استقلالية القضاء لأن أى مقترحات لا يمكن أن تنتقص من السلطة التقديرية للقاضى أو من مبادئ قناعته وعدله، لا يمكن أن تكون هناك قواعد  قادرة على أن تنتقص من الضمير القضائى العام أو الخاص، وإلا نكون بصدد إساءة متعمدة لأشخاص القضاة باعتبارهم قابلين للضغوط أو للمساومات، وكذلك بصدد إساءة لمؤسسة القضاء باعتبارها كيانًا هشًا.
ما قبل ٢٠١١ انطلقت حركات باسم تيار الاستقلال كما لو كانت إرادة الجمعية العمومية للقضاة خاضعة لنوع من الاحتلال!!
العمل القضائى أساسا هو فعل نضالى من أجل إقرار الحق والعدل مرتكزًا على قاعدة من الضمير، ومن الحق فلا يجوز وصم القائمين على هذا الفعل بأنهم مجموعات من الموظفين الذين يمكن أن تتقاذفهم أهواء الإعلام، أو حملات المزايدة على شبكات التواصل الاجتماعى.
عموم الحالة هو محاولة استدراج القضاء إلى مساحات سياسية لا تعرف ثوابت ومبادئ العمل القضائى.
■ ■ ■
على مدار سنوات كانت قضية الوحدة الوطنية والمواطنة مادة للشعارات والأحاديث العرفية لتأتى التعديلات الدستورية المقترحة بهدف صياغتها فى نص دستورى صريح يضمن تمثيلًا نسبيًا مؤثرًا للأقباط فى البرلمان كأداة لصياغة تشريعات كفيلة للحيلولة دون ترك هذه الحالة أسيرة لتقديرات وأفكار متغيرة .
  التعديل المقترح ينتقل بالمجتمع من حالة مواطنة موسمية أو مؤقتة إلى إطار قانونى ثابت ومحدد وملزم للدولة ولسلطاتها ومواطنيها .
التعديلات المقترحة تعيد صياغة مفهوم المواطنة باعتبارها جزءًا أساسيًا من البنيان المؤسسى للدولة؛ لننتقل من مرحلة الاحتكام إلى المشاعر والعواطف إلى مرحلة الالتزام القانونى .■ ■ ■
نتجه الآن إلى ما تتضمنه التعديلات الدستورية من مواطن ترسخ حالة مؤسسية من العدالة الاجتماعية من خلال نص صريح لتمكين المرأة المصرية بنسبة ٢٥٪ من مقاعد البرلمان، لنجد أنفسنا بصدد تمكين اجتماعى حقيقى، وليس تمكينًا انتقائيًا على أساس الجنس.
ليس هنا المقصود تمكين المرأة بنوعها بل بتنوعها الاجتماعى والسياسى ومكانتها الاجتماعية باعتبارها أيقونة العطاء والصمود على مدار تاريخ الدولة المصرية، وتجليات هذا الصمود فى ثورة ٣٠ يونيو، واستمرار العطاء بعد أن قدمت الزوج والابن والأب شهيدا فى سبيل الوطن دون أن تتخلى عن كبريائها.
تمكين المرأة هو تمكين للأمن القومى الفطرى للدولة المصرية .
■ ■ ■
أيضا ستتضمن التعديلات النص على وجود منصب نائب أو أكثر لرئيس الجمهورية وهو نص يحقق مايلى:
- توزيع سلطات الرئيس.
- تصنيع الكوادر .
- إظهار قدرات بعض الكوادر الموجودة فعلًا.
- إحاطة الرئيس بعقول مفكرة كقيمة مضافة للأداء الرئاسي.
- صناعة أمل لدى أجيال تجد فى نفسها الصلاحية للمنصب.
■ ■ ■
التعديلات الدستورية المقترحة ستضمن حصة برلمانية ثابتة ودائمة للشباب، فتتيح للأحزاب الدفع بكوادرها الشابة لتحمل المسئولية السياسية وممارستها بشكل عملي. عموم التعديلات وفلسفتها تشمل تجديدًا حقيقيًا للخطاب السياسى المصري.
نحن أمام دعوة تمنح الشعب حق تقرير مصيره من خلال قنوات سياسية وممارسة انتخابية متاحة للجميع .
لا يمكن هنا المصادرة على الحق الشعبى فى التصويت، وإلا نكون بصدد حالة ثورية احتكارية لا تعرف أهدافا أو حدودا للمعارضة التى تفقد قيمتها إذا لم تقدم بدائل متاحة .
التعديلات هى دعوة صريحة لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية التنافسية، وإحياء الحالة الحزبية التى تعطلت سنوات بفعل ممارسة احتكارية .
إذا كانت هناك مجموعات رافضة لهذه التعديلات فلتعبر عن هذا الرفض من خلال عملية تصويت قادرة على إفراز كتلة تصلح أن تكون نواة أو قاعدة لمشروع سياسى بديل، لديه رؤية لقيادة دولة بحجم مصر .