الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«فرانك أورباخ» فارس التشخيص وتفكيك الوجه الإنسانى

«فرانك أورباخ» فارس التشخيص وتفكيك الوجه الإنسانى






كجانب من تطور حركة الفن التشكيلى عالميًا علينا أن نستشف أن المحاولات التى كانت تقدم العمل الفنى على أنه جزء من محاكاة شبه متوائمة مع الطبيعة هى محاولات تضاءلت وتحولت بشكل أو بآخر لنوع من أنواع التحليل ثم التفكيك ثم مرحلة أكثر تطورًا وهى مرحلة إسقاط الشكل أو الصورة داخل العمل الفنى إذا آثرنا الدقة، وهذا ليس وصفًا دقيقًا لما يعرف بالتجريد مطلقًا فهناك مرحلة وقفت فى منطقة وسطى بين التجريد والتشخيص،
فالكثير من المعاجم تقدم لنا مدرسة التشخيص Figurative على أنها مساوية تمامًا لمصطلح تجريد Abstract وهذا فى الواقع ليس صحيحًا من وجهة نظرنا فهناك فرق كبير بين التجريد كنوع من أنواع التحليل الهندسى والمطلق للرؤية الفنية وبين تقديم هزة قوية للكتلة التشخيصية داخل العمل الفنى والمقصود هنا بالكتلة الشخصية الوجه بشكل كبير وبعض أعضاء الجسد التى تأتى تباعًا كما ينطبق هذا على الكتلة المعمارية فى المشهد الخارجى أيضًا،
ولكى يتضح لنا الفرق بشكل عملى علينا المقارنة بين فنانا اليوم وهو أحد أساتذة التشخيص «الفيجوراتيف» بل ويعتبر على رأس قائمة المطلوبين لأعلى سعر كما تقول عنه الصحافة الفنية وهو الفنان الإنجليزى الكبير «فرانك أورباخ» وبين زميليه من نفس جيله الفنان «لوسيان فرويد» والفنان «فرانسيس بيكون» وهم أيضًا من نفس الحلقة والتكوين ونفس الجيل إذا شئنا التقريب والبعض قد يتساءل عن جدوى المقارنة من عدمها على اعتبار أن لوسيان فرويد قد يكون بعيدًا بعض الشيء عن خط التطوير الذى انتهجه زميلاه «بيكون» و «أورباخ»، نستطيع أن نأخذ كتلة الوجه عند فرويد فنجدها لا تزال تحتفظ بالوضع التقليدى من حيث الملامح فهناك أنف وعيون وفم وخطوط محيطة للوجه مع الوضع فى الاعتبار أن فرويد أيضًا قدم لنا رعشة أولية فى الوجه فزحزح مقاييسه بعض الشيء من حيث الاستطالة وفرد مسطحات هندسية بعض الشيء فى الملامح وبالرغم من أنه اقترب كثيرًا لوجوه «إيجون شيلى» النمساوى لكنه كان يقوم أيضًا بما يراه تطورًا من وجهة نظره، ثم نأتى للعبقرى المتفرد فرانسيس بيكون فنجده قد خطا خطوة أوسع فى هز الوجه وجعله يتحلل أكثر من مقاييسه وخطوطه المحيطة فقدم لنا قيمًا مشوهة للوجه والجسد الهدف منها التعبير عن مضامين نفسية وفلسفية وأفكار من قبيل – عار الجسد - وغيرها من المضامين الكثيرة، ويعتبر «بيكون» هو حلقة الوصل بين تحولات لوسيان فرويد وفرانك أورباخ ونجد أن أورباخ قد خطا خطوة أكثر قوة من بيكون ناحية هز الوجه بل أكثر من ذلك لقد تعرضت وجوهه لزلزال لونى وفكرى وأصبحت وكأنها ترزح تحت وطأة المحو والتدمير وهذا هو الإيحاء الحقيقى لوجوه أورباخ الذى كما قلنا تقدم بشكل كبير فى فكرة تفكيك الكتلة الجسدية على زميله فرانسيس بيكون.
من هذه المقارنة يتضح لنا أن كلًا من هؤلاء لا نستطيع أن نطلق على فنهم تجريديًا بالمعنى المطلق فالتجريد هو التحليل الكلى والشامل للكتلة التشخيصية داخل العمل الفنى وتحويلها لمجموعة من الأشكال المنتظمة هندسية كانت أو غير هندسية لكنها تعبر عن معادل رياضى للكتلة فلا تبقى لنا أى دلالة على وجود مضمون جسدى أو تشخيصى وهذا ما يمثله بدقه أبو التجريد فاسيلى كاندينسكى وهو ما نستطيع أن نسميه التجريد المطلق والصريح، لكن أصحاب مدرسة التشخيص أو الفيجوراتيف هم فنانون لا تزال هناك أفضلية ولو قليلة للتشخيص الجسدى وتلميح الكتلة داخل أعمالهم ومن ثم يصبح من الخطأ أن نعتبر أن الفيجوراتيف والتجريد هم نفس المعنى ونفس المدرسة حتى إذا نعول على التحليل اللغوى والمعجمى وجدنا أن الـ  Abstractهو فى الأصل تمام الاختزال لكن الـ Figurative لا تزال مصطلحًا يحمل الصورة بداخله.
إذا فإن فنانا اليوم هو فارس التشخيص فرانك أورباخ الفنان الإنجليزى الجنسية والنشأة والألمانى الأصل ولعل ارتباط أورباخ بشكل قوى بـ «الهولوكوست» يجعلنا نميل للتصديق أنه أسقط مأساة طفولته على أعماله وفنه فحاول دائمًا تقديم شكل مهزوز للوجه البشرى على أساس شعوره بانحلال الفكرة الحضارية داخل النفس البشرية ومن ثم تتبدى فى شكل مشوش أقرب للشبح منها للإنسان يقول أورباخ فى أحد لقاءاته التليفزيونية : «لا زلت أذكر وكأنه الأمس كيف قبلتنى أمى واحتضنتنى ونظرت فى عينى لآخر مرة فى حياتها وكانت دموعها تقول لى إننا لن نلتقى فاهتم بنفسك يا صغيري، كنت ابن الثمانى سنوات حينما حملنى هؤلاء الإنجليز الذين أتوا كملائكة فذهبت معهم فى رحلة محفوفة بالمكاره إلى لندن، ولم أر أمى بعدها قط» .
فى هذا الحوار الذى أبكى المشاهدين كان أورباخ يتحدث دون أدنى تكلف عن مأساته مع الهولوكوست وكيف أنه كان ضمن عشرة آلاف طفل يهودى أنقذهم الإنجليز من معسكرات الإبادة النازية فى الحرب العالمية الثانية وأخذوهم للتبنى ودور الرعاية فى إنجلترا، ولقد أثر هذا الحدث كثيرًا على نفسية وفن أورباخ ونذكر أننا حينما قمنا بلقاء معه فى باريس منذ ثمانى سنوات قال لى حرفيًا فى شرح الوجوه التى يرسمها: «تخيل أنك فقدت البصر وأنت فى سن ثمانى سنوات.. كيف سوف ترى الوجوه فى ذاكرتك العمياء فيما بعد؟ لن تراها بالطبع واضحة أو ثابتة أو ذات ملامح محددة بل على العكس تمامًا سوف تراها خطوطًا تتفكك حول محورها وتقدم تلك تشظى وتحلل صريح، إذا أعتبر أننى فقدت البصر منذ أن كنت فى الثامنة وهذه اللوحات هى أقصى ما تقدمه لى ذاكرتى العمياء».
الحقيقة أن هذا الرد أبهرنى بل وجعلنى أعيد النظر مرة أخرى فى أعمال فرانك أورباخ والتى كانت فى هذا الوقت قد وصلت لنادى الملايين فبعض لوحاته وصلت كحد أقصى لـ 11 مليون دولار وبعضها وصل لـ 5 ملايين دولار كحد أدنى، ولعل صدق أورباخ فى وصف أحاسيسه تجاه أعماله جعلنى أؤكد لنفسى ما أؤمن به وهو أن المدرسية ما هى إلا قشرة نلبسها للفنان حتى نقوم بتصنيفه ضمن إطار زمنى أو نوعى ولكن هذا لا يعنى بالتحديد أن الفنان أنجز كل أعماله بهذا التقارب الذى يجعله ضمن مدرسة ما وهذا ما يثبته كلام مارك أورباخ لنا فى وصف أعماله الفنية.
تتميز وجوه أورباخ بأنها أكثر تحللًا من وجوه بيكون كما قلنا لكنها تحتفظ بخط تشخيصي جيد فالمتلقى يستطيع وسط كل هذا الزخم من الخلط اللونى وتداخل الخطوط أو الشخبطة كما نقول بالعامية يستطيع أن يميز ملامح الوجه وتعبيراته بكل سهولة وإن كانت تعبيرات أولية لحد ما مثل الحزن أو الغضب أو حتى التأمل، يعول فرانك أورباخ كثيرًا على تحديد اتجاهات الوجه فى أعماله والتى تتكفل بنسبة كبيرة من توضيح الحالة النفسية، تعتبر اتجاهات الفرشاة فى أعمالة ذات مغزى تكوينى فى الوجه بحيث تستطيع أن تتبع بسهولة نقطة البداية ونقطة النهاية فى السيناريو التنفيذى للعمل الفنى واستخدم أورباخ ضربات الفرشاة العريضة والمتصلة مع استخدام الألوان السميكة مما يوحى أحيانًا أن معظم أعماله الملونة من الجواش والأكريليك.  أنجز أورباخ أعمالًا فنية كثيرة من نوعية الأبيض والأسود والتى تنتمى جزئيًا لتقنية الحفر والتى والحق يقال كانت عصية بشكل كبير على التحليل من الناحية النقدية فبعضها ينتمى للتشخيص الكلاسيكى ويقترب من الفوتوغرافيا وبعضها يقع فى نفس دائرة أعمال أورباخ اللونية، وتتميز هذا الأعمال بأنها تنحو لفكرة التزمين – أى التدليل على خاصية الزمن – وكأنها تسرد قصص أشخاص ماضية بل وأحيانًا توحى بشكل مؤكد أنها تحكى حكايات عن الموتى، ومن المؤكد أنها تحمل نفس الطابع المأساوى المرتبط بطفولة أورباخ الذى فقد والديه وهو طفل صغير. ولد فرانك أورباخ عام 1931 فى برلين لأب وأم يهوديين، وكان والده محاميًا شهيرًا ويتمتع بمكانة اجتماعية كبيرة ووالدته كانت تهوى الرسم وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وأثناء حقبة الاضطهاد النازى كان أورباخ ضمن عشرة آلاف طفل يهودى تم إرسالهم تحت اطار سرى إلى لندن ليحولوا دون موتهم وكانت هذه هى أخر ذكرى لوالديه حيث ماتا فى أحد معسكرات النازية، التحق أورباخ بمدرسة بونك كورت لتعلم الرسم كما كنت له اهتمامات بفن الدراما لكنه كان أميل لفن الرسم ومن ثم تقلب فى مدارس عدة حتى وصل للدراسة فى البوليتكنيك ثم كلية سلاد الشهيرة وهناك تأثر بأستاذه ديفيد بيمبرج الذى قاد حركة التفكيك الشهيرة فيما بين الثلاثينيات والخمسينيات، يعتبر مارك أورباخ من القلائل الذين على قيد الحياة من هذا الجيل هو من الفنانين النادرين الذين تقتنى كل متاحف العالم وجاليريهاتها بلا استثناء أعماله كما انه أحد أشهر الأسماء فى بورصة الأعمال الفنية.