السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
نساء فى بيتى.. رواية تنحاز للفن والمرأة والحياة

نساء فى بيتى.. رواية تنحاز للفن والمرأة والحياة






فى روايتها الجديدة «نساء فى بيتى»، والصادرة فى القاهرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، تستحضر الكاتبة الروائية هالة البدرى نساء ونصوصا ولوحات، وتستعيد جمالا وفنًا. تغادر منطقة الجاهز وتصبح شريكة فى الفعل السردى ذاته، فتبدو مأخوذة بالتجريب أخذًا، حيث تجعل لملامح من سيرتها الذاتية حضورًا فى الرواية جنبًا إلى جنب بطلاتها الثلاث اللاتى تستحضرهن وتناقش ما جرى لهن أيضا.
تتكئ «نساء فى بيتى» على تيمة الاستعادة، وتنطلق من انتخاب جمالى لثلاث نساء مبدعات، تستعيدهن الكاتبة فى روايتها، فتستحضر الروائية النمساوية إنجيبورج باخمان، والفنانة التشكيلية الأمريكية جورجيا أوكيف، والكاتبة المصرية التى كتبت بالفرنسية قوت القلوب الدمرداشية، بترتيب الحضور لكل منهن داخل النص.
 وتبدأ الكاتبة روايتها عبر مدخل نصى يمثل ما يسمى بالتقديمة الدرامية للعمل، حيث ثمة حريق يلوح فى المشهد الافتتاحى للرواية، وتهيمن النيران المشتعلة، وتحترق الكاتبة النمساوية إنجيبورج باخمان فى كوخ بعيد فى إيطاليا بعد سلسلة من تراكمات الفشل والنجاح، التجربة والخطأ، الحب ونقيضه، والإخفاق والتمرد، فموتها مثل حياتها، يبدو دراميا بامتياز، حتى علاقاتها العاطفية يبدو فيها الوصل والجفاء، والهزيمة والمأساة. وتختار البدرى أن تحكى عن حبيبين لإنجيبورج باخمان، هما الكاتب المسرحى الشهير ماكس فريش، والشاعر الشهير أيضا باول سيلان.
 نحن إذن أمام انتخاب جمالى من حيوات الشخوص المختارين وسيرهم الذاتية وقراءة المسكوت عنه فى حيواتهم فى مقاطع عديدة من السرد، فليس توثيق سير الشخوص وتتبع كل شىء يخص حياتهم هو الحاكم هنا، وإنما تختار الكاتبة ما تراه مفيدا لنصها فى النهاية، وعلى الرغم من حضور جانب تسجيلى داخل الرواية يتمثل فى الإشارات المباشرة لسير هؤلاء الشخوص، فإن جانبا تخيليًا لا يمكن إنكاره يتجلى فى مناح عديدة داخل الرواية، ومن أبرزها الرسائل المتبادلة بين الساردة الرئيسية التى حملت فى الرواية اسم (هالة)، فى إيهام بالحقيقة، وتوظيف لآلية التداخل بين الراوى الضمنى للعمل ومؤلفته (هالة البدرى)، وبين الشخصيات الأخرى، على غرار الرسائل المتخيلة المتبادلة بين باخمان وهالة.
 تنتقل الكاتبة بعد حكيها عن الكاتبة النمساوية إنجيبورج باخمان التى تعد من أكثر الكاتبات تأثيرًا فى الأدب المكتوب بالألمانية، إلى امرأة أخرى من نسائها الثلاث، فتستعيد وتستدعى جورجيا أوكيف، ولا تكتفى باستدعاء الفنانة الأمريكية فحسب، ولكنها تستدعى من أحبوها، ومن خانوها أيضًا.
 وتتخذ الكاتبة من العناوين الفرعية مؤشرًا على جوهر الحكاية فى المقطع السردي، فيمتلئ النص بالعناوين الفرعية بعد أن تقسمه إلى قسمين كبيرين هما: (عندما يأتى المساء)، و(فى الليل لما خلي)، والذى يحوى جانبًا آخر من الحكاية الأساسية فى الرواية بعد أن حوى القسم الأولى جانب الحكاية المركزى، ويتحرك النص فى تلك المسافة الجامعة بين الساردة وبطلاتها الثلاث، ولذا فسؤال الرواية المركزى الذى يتواتر كثيرا فى النص هو:ما الذى يجمعنا؟ وذلك هو جوهر السؤال الذى تطرحه الكاتبة على لسان الساردة الرئيسية.
ثمة طموح روائى كبير فى «نساء فى بيتى»، حيث تكتب هالة البدرى بعفوية التجاور بين الأشياء، ولذا تتدخل فى السرد وتعقب على الحدث الروائى بعنوان يتواتر فى النص باستمرار أسمته (صناعة الرواية) وكأنها تعلن تمردها على الجاهز والمصنوع، وتحمل بطلتها اسم «هالة»، وتستدعى كثيرًا من ملامح سرد السيرة الذاتية فى روايتها.
ثمة استطرادات مجانية فى بعض مقاطع الرواية، خاصة ما كانت تسجيلية محضة، حيث يغلب الجانب التسجيلى على مقاطع عديدة داخل النص، بدت اللغة فيها لغة تقريرية متوسلة بالسرد الإخبارى المحض، وقد تم هذا دون أن تفكك الكاتبة هذه المقاطع، أو تتعاطى معها بوصفها مجرد وجه أحادى لحقيقة تتسع باتساع القراءة والتفكيك لحيوات بطلاتها الثلاث.
تستخدم هالة البدرى تقنية الحكاية داخل الحكاية، حين تستعير ثلاث بطلات أخريات من روايات ( مالينا لباخمان، ورمزة ابنة الحريم لقوت القلوب، وامرأة ما لهالة نفسها)، ومن ثم تصل الكاتبة هنا بالشوط إلى مدى أبعد، لتواصل تصورها الجمالى لتلك العلاقة الجامعة بين الكاتبات الثلاث (باخمان وقوت القلوب وهالة البدرى)، وتتعمق هذه الصيغة بالإشارة إلى رسالة الماجستير المعدة عن روايتى (امرأة ما) لهالة البدرى و(مالينا) لباخمان، وتصبح باحثة الماجستير نفسها جزءًا من الرواية بملخص بحثها باللغة العربية، والذى تثبته الكاتبة فى المتن.
وبعد.. ثمة مصائر مأساوية، ومآلات درامية تنتهى بها معظم حيوات الشخوص، وتبدو الكتابة روحا مسكونة بالأسى الشفيف. وتنحاز هالة البدرى للفن والمرأة والحياة، وتتكئ روايتها على منحيين متجادلين، سرد السيرة الذاتية، وسرد الاستحضار أو الاستدعاء للشخوص الثلاثة وعوالمهم ونصوصهم أيضًا، وعبر التفاعلات الخصبة بين هذين المنحيين تتشكل بنى النص ومروياته.
هنا ثمة كتابة، وثمة عالم يخص صاحبته، وطموح روائى يؤنسن الأشياء ويتحرك صوب المعنى والجمال والحرية.