الموروث الشعبى وتجليات «الزار» فى لوحات طه القرنى

سوزى شكرى
كتبت - سوزى شكرى
مكان مزدحم بمجموعات من البشر أغلبهم من نساء الطبقة الكادحة، وأيضًا من أثرياء المجتمع والمتعلمين والكل فى حالة نفسية معقدة «سيكودراما»، تتقدمهم امرأة سمراء تدعى شيخة الزار أو» الكودية» تقود طقوس الحضرة والكل يتبعها بطاعة عمياء لأنها بحسب قناعاتهم الوسيط بين البشر والجان، وتنتظر «الكودية» سماع أوامر»الجان» مقابل تحقيق مطالب الحاضرين، المكان مليء بغيوم دخانية، ورائحة البخور النفاذة تستقطبهم إلى عالم آخر، الجميع يرقص بأداء حركى موحد يعتمد على لف حركة الرأس إلى اليمين ثم إلى اليسار فيما يسمى «تفقير»، على إيقاعات الدفوف والطبول تستدعيهم لحالة شجن وشعور بأن قدرة علوية تسيطر على عواطفهم وتسلبهم إرادتهم ليصبحوا فى حالة اللاوعى، يصاحب الموسيقى ترديد كلمات وعبارات «الله حى.. الله حى»، مفردات وإشارات سحرية من شأنها بالنسبة لهم استدعاء «الجن» وطرده من الأجساد وفك العقد.
إنها تجليات «الزار» تلك «المثيولوجيا» القديمة التى تحورت عبر الزمن وانتقلت من إثيوبيا إلى السودان ومنها إلى مصر، يقدمها تشكيلياً الفنان المصور طه القرنى فى معرضه الذى أقيم مؤخرا بقاعة «بيكاسو» بالزمالك بعنوان «الزار».
«القرنى» فنان صاحب رسالة فنية ومجتمعية لقبه النقاد بـ»فنان الشعب» لأنه اعتاد معايشة شخصيات لوحاته فخرجت أعماله الفنية من الشعب إلى الشعب.
فى معرضه الخير يعرض «القرنى» مجموعة من اللوحات الزيتية والتى تعبر عن جماليات وتجسد طقوس الزار فى لوحات فنية ذات حجم كبير كما اعتاد فى جدارياته السابقة لمشروعاته الفنية، وطرح المعتقدات الشعبية من أماكنها الفعلية.
اللوحات تعد مشاهد ولقطات درامية تلقائية هى اقرب إلى عرض بانوراما للزار الذى يتمثل فى وجود مجموعات بشرية فى حالة اندماج وإثارة، وهم مسلوبو الإرادة أثناء ممارستهم طقوس الزار. يدور الطقس فى مكان ما شعبى ذات الأبنية المعمارية التراثية القديمة، نفذ الفنان لوحاته باسلوب فنى تسجيلى المعالجة والصياغة توثيقى الحدث والحس،الاتجاه الفنى انطباعى، التكوينات البشرية متنوعة ما بين نساء ورجال، تكوينات رصينة عميقة متلاحمة، يبدو على ملامحهم صدق مشاعرهم بحسب قناعاتهم، كل عناصر الزار متواجدة فى اللوحات وموزعة كلا فى سياقه الطقسى، الآلات، موسيقى المزمار، والصاجات، تمائم، بخور، أغاني، القربانين والأضحية.
أما «الكودية» قائدة وبطلة حلقة الزار فترتدى مجموعة من التمائم من القطع المعدنية تعلقها حول رقبتها وتضع على رأسها منديلا يخفى جزءًا من شعرها المجعد، والكل ينتظر انتهاء الطقس وإطلاق صرخة قوية توحى لهم بخروج «الجان» من أجسادهم بعد ذبح القربانين التى طلبها الجان ذلك الجان أو زائر الجسد الأسود كما يطلقون عليه.
فى المعالجة التشكيلية يخيم على البشر درجات رمادية دخانية نتجت من تصاعد البخور، ركز الفنان فى جميع اللوحات على تواجد منطقة ضوء مركزية يلتف حولها المجموعات البشرية والكودية، هى ليست منطقة ضوء بالمعنى الفنى بل يمكن قراءتها فلسفيًا أنها منطقة الأمل المرتقب تحقيقه، وهذه المنطقة أيضًا هى المساحة المخصصة لذبح الأضحية للجان، الألوان متعددة الدرجات الأحمر الأزرق الأصفر البنى الرمادى إلا أنها درجات قاتمة ضبابية.
بعض اللوحات خلفيتها ظلام وغيوم والتوقيت الزمنى ليلًا تشير أن الطقس يمارس فى الأماكن العامة وليس فى غرف مغلقة، ولوحات أخرى تشير إلى أن الطقس يمارس فى وضح النهار فى مكان عام للجميع وشمس ساطعة دافئة الدرجة والحس الوجدانى، أما حركة البشر العنيفة التى تتضح من ثنى الرقبة وأطراف اليد العصيبة التى تدق الطبول فأصابها درجة احمرار، وتعبيرات الوجه طموحة فى نيل الأحلام من الجن.
كموضوع أعاد الفنان طرح تساؤل حول استمرار معتقد الزار التى لازال البعض على قناعة أنها طقوس تطهيرية وتنفيسية وعلاجية ونفسية للهروب من مواجهة المشكلات والضغوط المجتمعية رغم وجود تطور العلم وتطور الطب النفسى، وقد يرجع علماء النفس سر مصداقية الزار عند ممارسى الطقوس فى التأثير الوهمى والقناعات الخاصة، والبعض الآخر يرفض تماماً الزار باعتباره شعوذة ودجل.
وعن موضوع المعرض يقول الفنان «القرنى»: هناك من المورث الشعبى الكثير مما يأخذ كامل اهتمامى، مرة بإسقاط فنى وآخر برؤية سياسية، فحينما يلجأ المصريون إلى وسيلة كالزار للهروب من الأزمات يجعلنى أتوقف كإنسان وكفنان لدراسة جماليات طقوس الزار التى وجدتها مشهدًا مسرحيًا شعبيًا وثقافيًا يحمل من سمات الدراما مضمونها ويعمق الحالة اللونية التى تظهر حالة الهوس النفسى لممارسى الزار، كلمة الزار أو الزائر الأحمر، مأخوذة من اللغة الحبشية (الأمهرية)، وتعنى الزائر الشرير أو المخيف، أما النساء القائمات عليه فتسمى الواحدة منهن (الكودية) أو الشيخة، الآلات الموسيقية ودق وضرب الدفوف، وإطلاق البخور، والكشكوش كلها أدوات ضرورية لاستدعاء الجان وحين يحضر على حد قولهم يطلب منهم تحقيق مطالب الحضور».