الجمعة 19 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
"إحسان" الذي لا يعرفه أحد
كتب

"إحسان" الذي لا يعرفه أحد




 


 كرم جبر روزاليوسف اليومية : 19 - 01 - 2010


مازلنا نتذكر الشرقاوي وفتحي غانم وصلاح حافظ


1


كانت روح إحسان معنا، هائمة في المكان، في "روزاليوسف" بشارع قصر العيني، وهو يري كوكبة من نجوم السياسة والصحافة والفن، يحتفلون معنا بالذكري العشرين لرحيله.


كانت روحه ترفرف في سعادة، وهو يري وفاء وعرفاناً غير مسبوقين، في عالم أصبح فيه نكران الجميل هو لغة التفاهم ومفردات الحوار بين الناس.
سعادته أيضًا لأنه كان مقاتلاً بالقلم الحر النظيف، عف اللسان ورفيع الأخلاق، فيه سمو في الأفكار والمبادئ، لا يجرح ولا يخدش حياء، ولا يستخدم لغة فجة وقبيحة.
2
هذا هو إحسان الذي دخل السجن ثلاث مرات وتعرض للاغتيال أربع مرات، وذهب إلي غرف التحقيقات عشرات المرات، وفي كل مرة كان من يتسبب في حبسه يعتذر له، ويبدي أقصي درجات الندم.
دخل السجن لأول مرة وعمره 26 سنة، عندما كتب مقالاً بعنوان "هذا الرجل يجب أن يرحل" قاصدًا المندوب السامي البريطاني اللورد كيلرن، ثم اعتذر له سجانه محمود فهمي النقراشي.
هو أيضًا بطل قضية الأسلحة الفاسدة سنة 1948، التي أدت إلي هزيمة الجيش المصري في حرب سنة 48، وكانت البداية الحقيقية لقيام ثورة يوليو 2591.
3
شهر العسل بين إحسان والثورة لم يدم طويلاً، وسنة 1954 كتب مقالاً بعنوان "الجمعية السرية التي تحكم مصر".. ولو قرأه نصف الصحفيين في مصر لاعتزلوا الكتابة.
اعتزلوا الكتابة من جرأة الكاتب وشجاعته ولغته الراقية البعيدة عن الشتائم والتطاول والإساءة، وسفالة الفتوات الذين يمسكون أقلامًا أطول من الشوم.
اتهم إحسان بصراحة ووضوح أعضاء مجلس قيادة الثورة بأنهم يعملون كجمعية سرية، لأنهم أدمنوا العمل السري، ويصدرون القرارات كما يصدرون المنشورات.
4
كان مصير إحسان هو السجن، لمدة 45 يومًا حبسًا انفراديا لأنه طالب بإبعاد الجيش عن السياسة، وقال بصوت عال "ليس هناك بلد يستطيع أن يعيش في نظام ثوري إلي الأبد".
وقال أيضًا: "العبيد هم الذين يخلقون الطغاة"، وهاجم محكمة الثورة والأحكام العرفية وطالب بحرية الصحافة وانتخابات حرة نزيهة.. قال ذلك بشجاعة وجرأة.
آه.. لو استمع إليه عبدالناصر، لكانت مصر التي أصابتها النكسة عام 67 في وضع أفضل وحال أحسن، ولكن الإحساس بالقوة المفرطة ضيع كل شيء.
5
أين نحن الآن من زمن إحسان، أين ذلك من فتوات القلم والصحافة التي تحترف هتك الأعراض، وتنتهك المبادئ والقيم، وتستخدم لغة لا تليق بمكانة الصحافة في المجتمع.
عبدالناصر حاول أن يلطف معه، واستقبله بعد خروجه من السجن علي الإفطار، وتودد إليه بأقصي درجة.. ولكن قلب إحسان وعقله أصبحا طريقاً مغلقاً.
تعامل عبدالناصر مع إحسان كصديق، وتعامل معه إحسان كرئيس، وبعد أن كان يقول له يا "جيمي" استبدلها بسيادة الرئيس.. وحدث الشرخ الذي لا يداويه أي شيء.
6
إحسان الذي احتفلت "روزاليوسف" بالذكري العشرين لرحيله أمس هو سر "روزاليوسف"، وتتوارث منه الأجيال زادها وزوادها واستمرارها.
من يتسلح بأخلاق إحسان وجرأته وشفافيته وقلمه العف ولسانه النظيف هو الذي يكتب له البقاء والاستمرار.. وكم مر علي "روزاليوسف" من هياكل كان مصيرها الزوال.
اسألوا الناس، سيتذكرون عبدالرحمن الشرقاوي وفتحي غانم وصلاح حافظ، وأسماء أخري، تسلحت بروح إحسان، وحملت وراءه راية التسامح السياسي.
7
التسامح السياسي هو الذي جعل "روزاليوسف" الساحة التي تضم في جنباتها كل ألوان الطيف السياسي المصري، يتحاورون ويتعاركون، وفي النهاية يدشنون ثقافة الاختلاف والاحترام.
الاحترام.. تلك الكلمة الرائعة التي اختفت من القاموس السياسي والصحفي، وتم استبدالها ب"الإهانة".. وأصبحت حرية الصحافة هي حرية الإهانة والتطاول والتخوين.
كان الرائعان موسي صبري وصلاح حافظ يتشاجران بعنف وشراسة علي صفحات "أخبار اليوم" و"روزاليوسف"، وفي نهاية اليوم تجمعهما كافتيريا واحدة يتناولان فيها معًا طعام العشاء.
8
كانت المنافسة في عصر إحسان تعني الفروسية والشهامة، وليس المؤامرات والمكائد والضرب تحت الحزام، وأطلقت فاطمة اليوسف، سباقًا صحفيا رائعًا بينه وبين أحمد بهاء الدين.
منعت نشر مقالاته الأدبية والشعرية في "روزاليوسف" حتي لا يقال إنه "ابن الست"، وعندما أرسل مقالاً غير موقع احتل صدر الصفحة الأدبية.
كانت تريده صلبًا وقويا ومقاتلاً.. وتحقق لها ما أرادت، وأصبح إحسان هو فارس الحب والحرية وأحد النبلاء العظام في بلاط صاحبة الجلالة.
9
ونحن نحتفل بذكري إحسان، عاد من جديد "الكتاب الذهبي" الذي أصدره، وساهم في اكتشاف الأدباء الشبان: نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وزكريا الحجاوي وغيرهم.
ليتنا نستطيع أن نجعله منارة تكتشف مزيدًا من المواهب، الذين يضخون في عروق المجتمع دماء جديدة متدفقة، تعيد الدفء والسعادة لروح إحسان.
إحسان.. نحن نحتفل بك لا بأنفسنا: فما أروعك وأنت تدشن من جديد احتفالية الوفاء.


E-Mail : [email protected]