الثقافة أنقذت تراث بيكار بــ 20 ألف جنيه
روزاليوسف اليومية
عشرون ألف جنيه أنقذت تراث «بيكار» تاريخ فنى متعدد الاتجاهات ممتد من ثلاثينيات القرن الماضى حتى السنة الثانية من الألفية الثالثة، أى ما يقرب من سبعين عاما حفرها الرائد الفنان والناقد والشاعر والموسيقى حسين بيكار الذى نحتفل بمئوية ميلاده والتى تم تجاهلها بدءا من العشر سنوات الأخيرة فى حياته لاعتناقه للبهائية وسجنه عام 1985، ثم الإفراج عنه فيما بعد لينزوى بعيدا عن كل شىء فى منزله ومعاناته من الاضطهاد، لكنه لم يتوقف عن الرسم ولا الكتابة، وكأن كل ما قدمه وما أسس له فى مصر من مدرسة فى الرسم خاصة للأطفال والكتابة لهم وفى التصوير والصحافة المصورة والنقد الفنى قد تم اختزاله ورفضه لمجرد أنه بهائى!...
فمنذ وفاته لم تقم وزارة الثقافة أو نقابة الفنانين التشكيليين أو الجمعيات الثقافية مثل أتيليه القاهرة وغيرها أية احتفالات ببيكار، فيما عدا أقلام أصدقائه وتلاميذه ومحبيه الذين كتبوا عنه فى مقالاتهم أمثال محيى الدين اللباد وأنيس منصور وأحمد رجب وإبراهيم سعدة ود.خالد منتصر والراحل إبراهيم عبد الملاك ود. محمد الناصر، إنما يحسب لوزارة الثقافة ولقطاع الفنون التشكيلية إنقاذ ما تبقى من تراثه من البيع بالمزاد العلنى مقابل 20 ألف جنيه دفعتها الوزارة لبنك ناصر بعد وفاة زوجته السيدة أسمة فى 14 فبراير 2011 التى تصل إلى 264 اسكتش وأعمال ورقية و38 لوحة زيتية هى فى الترميم حاليا استعدادا لإقامة معرض كبير لهم خلال هذا العام الحالى.
بداياته
فمن الصعب أن نتجاوز «سندباد» الفن الذى جاب عدة أساليب فنية كالرسم والموسيقى والكتابة والشعر الذى تجاوز الأربعمائة قصيدة، بيكار المولود عام 1913 بحى الأنفوشى من أصل تركى على أنغام سيد درويش وعشقه للموسيقى إلى حد النبوغ حتى أنه كان يعطى دروسا فى عزف الموسيقى وهو طفل، بيكار عاش حياة قاسية فكان ابن لأسرة فقيرة فقرا مدقعا يعيش فى حجرة صغيرة خالية سوى من صندوق للملابس وحصيرة...
التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1928 والتى كانت وقتها تسمى مدرسة الفنون العليا وكان عمره آنذاك 15 عاما ليكون من أوائل الطلبة المصريين الذين التحقوا بها، درس فى البدايات على أيدى الأساتذة الأجانب حتى عام 1930، ثم تتلمذ بعدها على يد أحمد صبرى ويوسف كامل، بعد تخرجه عمل بيكار مدرسا فى مدينة الأقصر الجنوبية لعدة أعوام قام خلالها فى تأسيس متحف للشمع وإنجاز بعض الأعمال فى تصميم ديكور المعرض الزراعي.
عام 1939 انتدب بيكار للتدريس فى المغرب حيث قضى هناك ثلاث سنوات عمل فيها كمدرس للرسم، ثم عاد القاهرة فى 1942 وعمل كمعاون لأستاذه الذى أصبح بعدها صديقه الفنان أحمد صبري، بعد فترة تولى بيكار رئاسة «القسم الحر» خلفا لصبري، الذى انتقل لرئاسة قسم التصوير، وسرعان ما تولى رئاسته بعد إحالة صبرى للتقاعد.
فى عام 1944 قام بيكار بتصميم ووضع رسوم مذكرات طه حسين «الأيام»، وشجع نجاح الكتاب أصحاب دار «المعارف» على أن يكلفوا عددا من الأدباء ومعهم الرسام بيكار لإصدار عدد من سلاسل كتب الأطفال المصورة، وكان من هؤلاء الأدباء محمد سعيد العريان، ومحمد فريد أبو حديد، وأمينة السعيد، وقد بدأ إصدار تلك السلاسل عام 1946.
سندباد
فى عام 1949 قرر بيكار أن يترك سلك التدريس ويتفرغ للعمل الفنى الصحفي، فبدأ مستشارا فنياً لمجلة «سندباد» التى ظهرت عام 1952 وأصبحت بعد فترة قصيرة واحدة من أهم المطبوعات فى مجال صحافة الطفل فى تاريخ الصحافة المصرية.
وكانت مجلة «سندباد» تقدم مغامرات مصورة لشخصية فتى وسيم اسمه (سندباد) قام بيكار بابتكار صورته من خلال رسوم جميلة أثرت فى الصغار والكبار، ثم سارعت دار أخبار اليوم بالتعاقد مع بيكار ليصبح مسئولا عن تصميم أغلفة إصدارات أخبار اليوم حتى وفاته.
العجيبة الثامنة
أثناء بناء السد العالي، طلب وزير الثقافة -وقتها- الدكتور ثروت عكاشة من بيكار تسجيل أحداث نقل معبد أبو سمبل من مكانه القديم إلى الجديد وتوثيق هذه المعابد والحياة فى النوبة، فرسم على مدار ثلاث سنوات حوالى 80 لوحة إضافة إلى آلاف الاسكتشات بأسلوب حفز المخرج العالمى جون فينى باخراج هذه اللوحات فى فيلم تسجيلى عالمى باسم «العجيبة الثامنة» ليجسد الفيلم أكبر دعاية على مستوى العالم لمشروع السد العالى.
«البورتريه» عند بيكار
أبدع بيكار فى فن البورتريه الذى يعتبره رسما وتلخيصًا للحياة موضوعة على مسطح بتكوين وعلاقات يتقرب من الشخصية بالتعامل والحديث ليقتنص لحظة من لحظاتها يعبر عنه باللون واللمسة، وعن فن البورتريه وفلسفته يقول بيكار «تعلمت فن البورتريه من أستاذى فريدمان كروزيل أستاذ النحت فى كلية الفنون الجميلة وأنا طالب فيها، إذ كان يطلب منى أن أرسمه بواسطة هذا النوع من الفن، وفى جلسات الرسم تلك كان يعلمنى ما لا أعرفه، ومن ضمن تلك الدروس القيمة جدا قوله لى -حين تكون أمام البورتريه يجب أن تشعر أنك تخاطب الشخصية التى ترسمها، هذا الحوار هو ما سيمكنك من اقتناص لحظة زمنية فى مسار الزمن عندها فقط ستصل الى قلب فن البورتريه».
الفنان جميل شفيق أحد أبرز تلاميذ بيكار قال: الأستاذ بيكار له أثر كبير فى تشجيعى على إقامة المعارض، فبعد ألحاح أصدقائى لإقامة معرض لأعمالى، زار بيكار معرضى وكتب لى كلمة رائعة وأطلق على المعرض لقب «إلياذة جميل شفيق»، فكان معلما مهما وجعلنى أستمر ومنحنى طاقة كبيرة، فكان من الأساتذة التى تمنح كامل خبرتها للطلبة، من مواقفه الطريفة أنه كان حينما يعلم الجزار يجده يبدأ البورتريه من العين وهو ما نهره عنه لكنه وجد أن الجزار يحب هذه الطريقة وهذا المدخل للبورتريه فتركه على سجيته، ربما آخر كلمة كتبها لى قبل اعتلال صحته وذهابه للمستشفى كلمنى بالليل وقال أنه كتب كلمة عن معرضى تم نشرها بالأخبار، من أكثر ما تعلمته منه هو الإخلاص فى الفن، أيضا حين كنا طلبة بالكلية كان يهتم جدا باصطحابنا لسماع الموسيقى بالأوبرا ودائما ما كان يطلعنا على الجديد فى الفن والكتب الفنية، فلقد منح طاقته للطلبة والناس.
الفنان محمد طراوي: كنت فى حوار مع أحد رؤساء التحرير وكنا نناقش مسألة النقد الفنى وهو إلى حد كبير انطباعى فى الصحافى البعيد عن الفلسفى والتنظيري، فقلت له أن الناقد إن كان ممارسا للعملية الإبداعية ويطرق باب الكتاب فعليه أن يكون من معيار بيكار وذلك لأنه ذا مواهب وفكر بيكار على اعتبار أنه لا يجوز أن يكون فنانًا تشكيليًا ذو موهبة محدودة وينتقد مجايليه!! فبيكار فنان ذو موهبة متفردة وذو قلم لا غبار عليه مطلقا.
بيكار صحفيا هو أحد شيوخ الرسم الصحفي، فكل أعماله من بداية إصدار المجلات وكانت له تجربة كبيرة مع مجلة «سندباد» للأطفال التى استطاع من خلالها بخطوطه البسيطة وألوانه جذب عالم كبير من الأطفال للمجلة، فبيكار كان قادرا على تكثيف مايقوله الكاتب للطفل من خلال رسومه برشاقة فى خطوطه، أيضا من أهم مميزات بيكار الوازع الوطنى التى استطاع تأصيلها للطفل من خلال رسومه وغرس حبه للعلم والفن فبيكار فى هذه الفترة كان بمثابة الجسر لتوصيل وتأصيل الفكر والثقافة فى الطفل، فقضية بيكار هى قضية الانتماء وكانت كل حواراته يؤكد فيها أن مصر الحقيقية هى «الصعيد الجواني» وهو ما انعكس على كل أعماله الفنية والصحفية والتشكيلية أيضا التى كان يشارك بها فى حركة الفنية وعلى صفحات الجرائد كان يؤسس لهذه القناعات فى رسمه الصحفي، من أبرز إسهامات بيكار فى أنه نقل الرسم الصحفى من مفهوم الرسم المكمل للنص أو التزيين ليجعله واقفا على قدم المساواة مع النص كما أن الرسم الصحفى هو بالتأكيد له بعدا جماليا واضحا فى الجرائد لكن عند بيكار اكتسبت بعدا فكريا ايضا بناء على النص المصاحب لها ... بيكار حفر لنفسه مكانة كبيرة بفنه ورسومه وشعره فلقد استطاع تجسيد أفكاره والتعبير عنها بمختلف الوسائط الفنية.
بيكار كان من أعمدة فنانى البورتريه، الذى غاص من خلاله فى أعماق النفس البشرية ولقد اتسمت أعماله بالرصانة وقوة البناء، فكان مولعا بالوجه الإنسانى لأنه أحد المتخمات الفنية والجمالية، فالبورتريه عنده كان عالما مليئًا بالمشاعر لذا نجده قدم أعمالا تمثل تراثا مهما فى الحركة الفنية.
وقال كاتب الأطفال يعقوب الشاروني: الأستاذ حسين بيكار من أهم رواد رسم كتب الأطفال فى مصر والعالم العربى ومن أهم ما أثرى به كتب الأطفال الإشراف على مجلة «سندباد»، إضافة إلى أنه رسم عددا كبيرا من كتب رائد الأطفال كامل كيلاني، خطوط بسيطة ومساحات لونية متناغمة تجعل رسومه تصل مباشرة لعين وخيال الأطفال كما أن بيكار كان ناقدا أيضا للفنون التشكيلية سواء للكبار أو الصغار وقد وضع كثيرا من الأسس النظرية لكتب الأطفال ونصح من يرسمون أن يكتشفوا النوع المناسب لموهبته فهناك من يستطيع أن يرسم الكاريكاتور وهناك من يرسم بالأسلوب الواقعى وهناك من يرسم بالأسلوب الخيالى وهذا يستدعى أن يختار الرسام القصص والموضوعات التى يرسمها ولا يترك للناشر أن يفرض عليه أسلوبا لا يتلاءم مع موهبته.
المخرج الفنى ورسام الأغلفة أحمد اللباد قال: بيكار من جيل بعيد، وللأسف لا يوجد توثيق جيد للأجيال السابقة ولكن من أكثر الأغلفة التى أثرت فى أعمالى جدا كان غلاف كتاب الأيام لأنه مقرر علينا والكتب المدرسية دائما هى أكثر ما يؤثر فينا أيضا ديوان «طفولة نهد» وهو أول دواوين نزار قبانى ... بيكار خلق نوع من الحساسية الجديدة ونقلة حقيقية فى صناعة الأغلفة فقبله كانت الأغلفة رصينة لكنها غير معتمدة على التعبير عن مادة ونوع الكتاب فلم يكن من عتبات النص إلى أن جاء بيكار ليدرك مسئولية وأهمية الغلاف للنص.
وأكمل: على مستوى الإخراج الفنى تحديدا فى مجلة سندباد حقيقة وبدون مبالغة هى من أجمل المجلات حتى الآن!!! فكان لديه إحساس بصرى بالمساحات وهدف المطبوعة، فكان لديه إحساس بفن الاتصال والتعبير عن المادة بحس رهيف جدا، حيث اهتمامه بمساحات الحروف والترقيم وتوزيع الرسم فلم يسع خلف إبهار بصرى كاذب بل إلى لب العلاقة بين القارئ والمطبوعة خاصة أنه أيضا للطفل وهو الأصعب لأن الطفل ليست لديه الخبرة البصرية الكافية.