فى ذكرى ميلاده 90
«أدونيس» وحكايات مدينة النهايات المكتملة

مروة مظلوم
«نعم يتعذر وصف شهوة الكلام عند جدران دمشق» تلك هى «الأبجدية الثانية» لـ«أدونيس» وحده أجاد الصمود بكلماته أمام مدينته ذات العماد القاسية «دمشق» ..وجعل منها وسادة للسماء والأرض ..فمع أدونيس قُلْ الشام وحلق، العذراء وجيرون، قُلْ عين الشرق، إرم ذات العماد، باب الكعبة.قُلْ «أيتها الخطيئة القديسة الخطايا». قُلْ وسلِّمْ جسدك إليها. وادخلها. ادخلها وتَصالحْ معها وفيها، شعرًا وحرية ودموعًا... ثم أعزف بكلماته «كونشيرتو القدس» ولد الشاعر الكبير أدونيس الذى نحتفى بذكرى ميلاده فى الأول من يناير عام 1930 باسم على أحمد سعيد إسبر ، فى قرية قصابين بمدينة جبلة فى سوريا. تأخّر فى دخوله المدرسة حيث بدأ الدراسة على يد والده الذى علمه القراءة والكتابة وساعده على حفظ الشعر القديم. عندما بلغ أدونيس الثالثة عشرة من عمره ألقى قصيدته الوطنية الأولى أمام الرئيس شكرى القوتلى الذى أُعجب به وبأدائه كثيرًا. بعد ذلك قدمت له الدولة منحة للدراسة فى المدرسة العلمانية الفرنسية فى طرطوس. مدينة النهايات المكتملة والمنتهية جاء أدونيس إلى دمشق – العاصمة والتقاليد والتاريخ والجامعة والأحزاب السياسية والمدِّ القومى مسكونًا بهاجس تغيير مصيره لكن دمشق لم تكن أفقًا سهلاً للتغير والتغيير، بل قيدٌ لأدونيس الشاب الهارب من الانتماءات الأولية والخطابات المقفلة والابتذال السياسى.. حيث سكن أدونيس الشاب وحيدًا وفقيرًا فى غرفة صغيرة من قبو فى حى القصاع، وفى عام 1954 حصل على إجازة فى الفلسفة من جامعة دمشق، ولكنه لم يتوقف هنا بل استمرَّ بالتقدم وحصل فى عام 1973 على شهادة دكتوراه فى الأدب من جامعة القديس يوسف فى لبنان. بعد تخرجه فى جامعة دمشق التحق أدونيس بالخدمة العسكرية فى عام 1954، ولكنه دخل السجن لمدة عام بسبب انتمائه فى تلك الفترة إلى الحزب السورى القومى. حتى تاريخ رحيل أدونيس عن دمشق الشام فى العام 1956، لم تُكتَب دمشق فى شعره. ويجب انتظار العام 1960، تاريخ ظهور ديوانه أغانى مهيار الدمشقي، حتى تبدأ دمشق الاسم والمعنى فى التشكُّل داخل مشروعه الشعري. كان لا بدَّ للشاعر من الابتعاد قليلاً عن حافة المكان ليطلَّ من خلاله شعرُه برؤية أعمق فى «أغانى مهيار الدمشقى» فيقول فى فصل «إرم ذات لعماد» لا أستطيعُ أن أحيا معكم.. لا أستطيعُ أن أحيا إلا..معكم. أنتم تموُّجُ فى حواسى ولا مهربَ لى منكم. نتيجة لذلك انتقل الشاعر إلى لبنان فى عام 1956 حيث التقى مع الشاعر يوسف الخال وتعاونا على إطلاق مجلة شعر فى بداية العام التالى. شعر أدونيس فى ستينات القرن الماضى أصدر ديوان الشعر العربى المؤلف من ثلاثة أجزاء. كما قدم عدة ترجمات فى بدايات السبعينات منها حكاية فاسكو والسيد بويل ومهاجر بريسبان وسهرة الأمثال. فى عام 1969 بدأ بإصدار مجلة مواقف والتى استمرت حتى عام 1994. خلال هذه الفترة كتب أدونيس العديد من القصائد التى تركت أثرا كبيرا فى الشعر المعاصر ومنها قصيدة قبر من أجل نيويورك فى عام 1971 والتى تنبأت بأحداث 11 سبتمبر من عام 2001. فى عام 1988 أصدر من دار الآداب فى بيروت عدة قصائد مشهورة منها أغانى مهيار الدمشقى وكتاب التحولات والهجرة فى أقاليم الليل والنهار ومفرد بصيغة الجمع، وقد شكلت هذه القصائد انطلاقة لأسلوبه الجديد فى الشعر العربى المعاصر. فى عام 1994 قدم ديوان أبجدية ثانية وطبعها فى دار توبقال للنشر فى الدار البيضاء بالمغرب، كما أصدر بنفس العام كتاب بعنوان The Pages Of Day And Night. وبعد عامين أطلق من دار المدى للنشر فى دمشق قصيدة بعنوان مفردات الشعر. استمر إبداع الشاعر أدونيس فى مطلع القرن الحادى والعشرين وأصدر العديد من الكتب الشعرية منها كتاب أول الجسد آخر البحر وكتاب تنبأ أيها الأعمى فى عام 2003، وكتاب المحيط الأسود فى عام 2005 والذى جمع فيه مقالات ودراسات تُعبر عن آرائه فى قضايا مهمة مثل الدين والوطن والوجود وغيرها.
عودة للوطن بعد غياب دام حوالى خمسين عاما عن وطنه سورية عاد أدونيس إلى أرض الوطن فى عام 2003 وألقى قصيدة «تحولات الصقر» فى أمسية شعرية حضرها جمهور كبير بقصر العظم فى دمشق. وأصدر كتاب بعنوان الكتاب «الخطاب الحجاب » فى عام 2009 والذى ناقش فيه ثقافة التكفير والاجتناب فى مختلف مجالات الحياة السياسية والفكرية والمعرفية. وتبعه فى عام 2010 ديوان البيت الواحد فى الشعر العربى الذى حمل طابع أدونيس فى الجمع بين ماضى الشعر العربى وحاضره. ثم أصدر ديوانًا شعريًا فى عام 2012 تحدث فيه عن القدس المحتلة بين الماضى والحاضر وكان بعنوان «كونشيرتو القدس».كما نشر كتاب بعنوان «غبار المدن بؤس التاريخ » فى عام 2015. وكان كتابه الأخير بعنوان «سوريا وسادة واحدة للسماء والأرض» والذى نشره فى عام 2017. قدم فى هذا الكتاب صورة عن سوريا وشعبها وروعتها قبل اندلاع شرارة الحرب، وساعده فى ذلك المصور الموهوب فادى مصرى زادة الذى زوده بلقطات ساحرة لمختلف جوانب الحياة فى سوريا. جوائز أدونيس منذ منتصف خمسينات القرن الماضى بدأ يتلقى دعوات ليكون أستاذًا جامعيًا زائرًا فى جامعات فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا. فاز أدونيس خلال مسيرته الأدبية بالكثير من الجوائز والأوسمة ومنها جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية فى عام 1993 من فرنسا، وجائزة البحر المتوسط للأدب الأجنبى فى باريس، وجائزة المنتدى الثقافى اللبنانى فى عام 1997. فى عام 1998 فاز بجائزة الإكليل الذهبى للشعر فى مقدونيا والتى تُعتبر من أهم الجوائز الأدبية للشاعر. وبنفس العام حصل على جائزة نونينو للشعر فى إيطاليا. كما أنه أول شاعر عربى يحصل على جائزة غوته فى عام 2011 فى فرانكفورت.