الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مستعمرة الجذام.. جدل المقولات الكبرى والتفاصيل الصغيرة

مستعمرة الجذام.. جدل المقولات الكبرى والتفاصيل الصغيرة

عن عوالم القوة المدججة بسلطة المعرفة، وتطويع الأيديولوجيا، وعن تداعى المعنى، واضطراب القيمة. تبدو المجموعة القصصية (مستعمرة الجذام) للقاص والروائى فتحى إمبابي، والصادرة فى القاهرة حديثا عن دار (ابن رشد) بالقاهرة.



 وتتسرب كل السرديات الكبرى فى متون المجموعة القصصية، مرتهنة هذه المرة برهان التفاصيل الصغيرة والغلالة الرومانسية الناعمة، والمحاكاة التهكمية، وأحيانا البناء الرمزى كما فى قصتى «مستعمرة الجذام»، و»الرجال الطبيعيون».

تبدو القصة المركزية فى المجموعة والتى تحمل اسمها «مستعمرة الجذام» معنية بمساءلة الواقع الثقافى فى تماس مع رواية فتحى إمبابى «شرف الله»، وفى تكثيف للمدلول السردى وكشف عن معنى المثقف التقنى حين يتاجر بالناس والأحلام والثقافة ذاتها، والذى يسائله فتحى إمبابى هنا على نحو فنى وجمالى يخرج بالمعنى السردى الى أفق دلالى وسيع، حيث موظفو الأيديولوجيا البديلة يغزون العالم، وحيث يقود الحرمان فتاة عادية لكنف القوة الهائلة أو بالقرب منها، وحيث تصبح التمثيلات الفردية هنا ممثلة لذوات جماعية بالأساس مأزومة ومسكونة بالقلق والهواجس، أو برغبة الفرار من الجوع، والإقصاء والارتماء فى حضن الأيام التى صارت فضاءاتها مثل مستعمرة الجذام، وهى مستعمرة التشوهات اللانهائية، والتى يتأخر ذكرها فى النص إلى صفحة ٨٩ مشفوعة بروح الاستلاب ووهم الاستيلاء على المعنى الذى يمارسه الدكتور النابغة كما يسميه النص، والذى تقدمه القصة على نحو تأملي، تتضافر فيه المقاطع الأحد عشر التى تشكل متن السرد.

ولذا ستتسع مساحات السرد التحليلى فى القصة، وتعتمد بنائيا على تقنية المحاكاة التهكمية، من خلال إيراد مقاطع ظاهرها الهزل وباطنها الجد، تحوى تلك السخرية المضمرة من واقع شائه يصير فيه كل شيء قابلا لأى شيء وتتعدد داخله ثنائيات الظلمة والنور، والصعود والسقوط.

 وتعود من جديد ثنائية «الرجال الطبيعيون» و«الرجال الصاعدون». ويختلط كل شيء فى واقع يعتمد الخلط والإمحال آلية ناجعة له. يقدم فتحى إمبابى هنا مقطعا عرضيا من نضال جيل السبعينيات فى قصة «عزيزى تيمور»، والتى تحيل الى المناضل اليسارى تيمور الملوانى فى القصة الثانية من المجموعة والتى تلعب الهوامش فيها دورا مركزيا فى تتمة الرؤية القصصية بدءا من العنوان الذى يفسره الهامش ووصولا إلى مراوحات الحضور والغياب فى القصة وجدل الماضى والحاضر. فالقصة تبدأ من الراهن، وينطلق خط القص الرئيسى فيها من لحظة زمنية يلتقى فيها السارد مع رفيقه القديم المتعين بشخص واقعى ومصاحبا لاسم واقعى آخر فى مكان حقيقى وليس متخيلا، ويبدو حضور أشخاص حقيقيين داخل النص نوعا من الإيهام بواقعية الحدث القصصي، حيث يلتقى السارد الذى يتواتر اسمه فيما بعد «فتحى عبدالظاهر» مع تيمور بصحبة الناشر محمد هاشم على مقهى زهرة البستان ويكون اللقاء دافعا لتجدد الذكرى، وكأن ثمة محاولة فنية للتماس مع زمن بعينه وعرض تقاطعاته وتبايناته مع اللحظة الراهنة، وصولا إلى ثورة 30 يونيو 2013، واستعادة الهوية الوطنية المصرية، فى تلاحم بين مفاصل التاريخ المصرى المعاصر فى نص تتسع فيه مساحات الأيديولوجيا المحمولة على زخم التفاصيل الصغيرة وهذا تحول مهم فى هذا النسق الذى كتبه إمبابى من قبل وعرفته أدبيات الكتابة المحتفية بالمقولات الكبرى.

وفى «الرجال الطبيعيون» ثمة إحالة على زمن الصراع الدراماتيكى بين المعنى ونقيضه، بين أن تكون أنت، أو تكون محمولا على سلم الصعود للهاوية، فى لعبة من تبادل الأدوار بين الطبيعيين والصاعدين. وفى أسئلة متكررة تتواتر بطول السرد وزخمه المترع بالأسى والشجن والتوزع بين الممكن والمستحيل. والإخفاق الذاتى حيث يفشل الفرد فى أن يكون ما يريده والمفضى الى اغتراب شامل.

تتسع الغلالة الرومانتيكية فى «امرأة من مخمل» وتحمل اللغة طاقات مختلفة عن القصص الأخرى من حيث الهمس الناعم داخلها وتصير (المرأة) التى تحضر فى قصص المجموعة الخمس على اختلاف فيما بينها بوصفها مسرودا عنه هنا.

 وفى «الأميرة الدينارية» تقترب المجموعة من حس الحياة وشبقها اللانهائى أكثر وتحيل علاقة قنص ومطاردة من رجل لامرأة منتقبة مقموعة وراغبة فى التمرد فى آن واحد إلى تيمة انسانية يقتنص فيها السارد الرئيسى ذلك المعنى الهارب فى القصة حيث كل شىء قابل للتشظى والتحول. وحين تدخل المرأة الثلاثينية فى علاقة حرة تسترد إنسانيتها المهدرة لكنها لم تزل والقصة معها بحاجة إلى طرح الأسئلة الأعمق بخصوص تحولات الذات فى جدلها المستمر مع العالم. تبدو قصة الأميرة الدينارية من لحم ودم، والحس الإيروتيكى فيها بدا موظفا على نحو دال.

وبعد.. يتسم المشروع الإبداعى للكاتب فتحى إمبابى بفرادة حقيقية، بدءا من روايته «العرس» فى العام 1980، ومرورا برواياته اللافتة: نهر السماء/ مراعى القتل/ شرف الله/ أقنعة الصحراء/ العلَم، ووصولا إلى روايته «عتبات الجنة».  ويمكن للمتلقى فى كل قراءة أن يصل إلى جملة من النتائج والدلالات التى تكشف عن كاتب يحمل تصورا كليا للعالم، جمله طويلة مشحونة بشحنات فكرية وعاطفية دالة، والوصف لديه مركزي، والمجازات حاضرة وبقوة، واللغة تطوع فى خدمة السرد وتبدو آليته الناجعة للوصول إلى المتلقي، وفى مجموعتيه القصصيتين (السبعينيون، مستعمرة الجذام) ثمة كتابة تحتفى بالإشباع السردى كثيرا، وتبدو مستعمرة الجذام واصلة لشوط أعلى على مستويى الخبرة الجمالية والتكنيك الفنى عبر مجموعة قصصية مختلفة عن السائد، تنوعت فيها القصص الخمس بين صيغ سردية وحكائية وأسلوبية متعددة تضاف إلى متن المشروع اللافت لفتحى إمبابى فى مجرى السردية المصرية والعربية.