الثلاثاء 23 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
دولة التلاوة

دولة التلاوة

بما أننا فى شهر القرآن والصيام هناك عادات مصرية للكثيرين تتعلق بتلاوة كتاب الله والاستماع إلى سلاطين القراء فى دولة التلاوة بمصر وجاءت وفاة الشيخ محمد محمود الطبلاوى الأسبوع الماضى لترجع بذاكرة أهل مصر مسلمين وأقباط لسنوات ماضية حيث الاستماع إلى عمالقة التلاوة لهذا الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. سئل ذات مرة الشيخ محمد متولى الشعراوى رحمة الله عليه عن رأيه فى أصوات القراء وهم: الشيخ محمود خليل الحصرى والشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد رفعت؟ فقال: إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعاً فهو محمد رفعت.



كنت أبحث عن أوارقى القديمة فلفت نظرى أحد الكتيبات القديمة لدراسة أثرية للدكتور حسن محمد نور عبد النور أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآداب جامعـة سوهـاج، حيث ذكر فى هذا البحث المقولة الشهيرة بأن القرآن الكريم نزل فى مكة وكتب فى العراق وقرئ فى مصر ، وقد سجلت معالم الدراسة فى كتاب « دراسات أثرية حول المصحف الشريف.

البحث يوثق لبداية جمع القرآن الكريم فى مصحف واحد بأمر الخليفة الأول أبو بكر الصديق بعد وفاة النبى محمد صلى الله عليه وسلم ،ثم أمر الخليفة الثالث عثمان بن عفان بنسخ عدة نسخ من المصحف لتوحيد القراءة وتوزيعها على الأمصار واحتفظ لنفسه بنسخة منه.

أنا شخصيا أسعدنى الحظ فى عام 2009 بأن دخلت إلى مكتبة المخطوطات المركزية التابعة لوزارة الأوقاف لكى أشاهد عن قرب واحدا من تلك المصاحف التى كتبت فى عهد الخليفة أمير المومنين عثمان بن عفان.. عندما تنظر إلى هذا المصحف تشعر بالمهابة والجلال. 

إذًا للمصاحف أهميتها التاريخية فى تاريخ الإسلام من حيث إنها تعتبر شاهداً مادياً على تدوين الوحى القرآنى أولاً ثم شاهداً على الخط العربى ومراحل تطوره عبر السنين. هذا المصحف الشريف النادر والفريد على مستوى العالم الذى شرفت بالاطلاع عليه كان محفوظاً فى خزانة الكتب المدرسة الفاضلية التى بناها القاضى الفاضل عبدالرحيم البيسانى العسقلانى فى العصر الأيوبى  ثم نقله السلطان الملك الأشرف أبو النصر قنصوه الغورى آخر سلاطين الدولة المملوكية  إلى القبة التى أنشأها تجاه مدرسته بالقرب من باب زويلة ، ونقل إليها أيضاً الآثار النبوية ، وعمل له جلدة خاصةً بها نقش عليها أنها صنعت بعد كتابة المصحف العثمانى بثمانمائة وأربعة وسبعين عاماً – أى أنها صنعت سنة 909هـ وظل محفوظاً بها لمدة ثلاثة قرون، وفى عام 1305هـ استقر المصحف والجلدة والآثار النبوية بعد نقلها إلى مشهد الإمام الحسين رضوان الله عليه.

نعود إلى شهر رمضان والاستماع إلى التلاوات النادرة لمشاهير القراء العظام وآخر سلاطين هذا العصر المغفور له الشيخ الطبلاوى وهو القارئ الوحيد الذى اشتهر فى أول ربع ساعة ينطلق فيها صوته عبر الإذاعة، كأنه كان على موعد من استجابة السماء لدعاء والده، وإيذانا بانتهاء حياة شاقة تحملتها الأسرة عن رضى وطيب خاطر.

ويقول الشيخ الطبلاوى رحمة الله عليه فى أحد الحوارات الصحفية: بدأت قارئًا صغيرًا غير معروف كأى قارئ شق طريقه بالنحت فى الصخر وملاطمة أمواج الحياة المتقلبة، فقرأت الخميس (حيث اعتاد المصريون الاستعانة بشيخ لقراءة القرآن فى أول خميس يكون بعد وفاة الميت)، والأربعين (حيث اعتاد المصريون الاستعانة بشيخ لقراءة القرآن عند اكتمال مرور 40 يوما على وفاة الميت)، والرواتب والذكرى السنوية وبعض المناسبات البسيطة, كل ذلك فى بداية حياتى القرآنية قبل بلوغى الخامسة عشرة من عمرى، وكنت راضيا بما يقسمه الله لى من أجر، لم يزد على ثلاثة جنيهات فى السهرة، ولما حصلت على خمسة جنيهات تخيلت أننى بلغت المجد ووصلت إلى القمة.. رحم الله  الشيخ الطبلاوى الذى كرمه ربه واختار له شرف لقائه وهو صائم وفى شهر القرآن الذى صدح به لأكثر من 70 عاما من عمره وحفظ الله مصر لتظل عظيمة بالقرآن وبالعلماء.. تحيا مصر.