الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
كنت شاهدًا على «إعلان القاهرة»

مهارة الإدارة المصرية فى فك شفرة بيت العنكبوت الليبى:

كنت شاهدًا على «إعلان القاهرة»

قبل أربع سنوات، شاءت الأقدار أن أكون على متن أول طائرة مدنية تهبط مطار «بنينة» الدولى بمدينة بنغازى، بعد أن توقفت حركة الطيران فيها مدة ثلاث سنوات.



لحظات قبل الهبوط كانت كاشفة، الأجواء الليبية غارقة فى ظلام دامس، لم يبدد تلك العتمة التى تخفى آثار الدمار التى خلفتها الجماعات الإرهابية وتنظيم الدولة، سوى تلك المصابيح القوية على أرض المطار واستطعت من خلالها أن اتبين وجوه مستقبلينا من أفراد الجيش الوطنى الليبى.

احتفاءً وتأمينًا خرج بنا موكب الجيش الليبى، رائحة الموت والدمار تحيط أركان المطار، وتمتد معنا طوال الطريق وصولًا لفندق الإقامة المطل على الشاطئ، ويبدو أنه المبنى الفندقى الوحيد الذى لم تصل إليه أيادى الإرهاب.

الخامسة فجرًا دلفت إلى غرفتى بعد رحلة شاقة. كان النوم هو الفعل الوحيد القادر على مسح آثار الإرهاق النفسى قبل البدنى، مجرد أن غفوت وإذ بانفجار مدوٍ يطيح بى إلى الأرض لأقوم مفزوعًا لأجد تفجيرًا عنيفًا نفذته داعش التى كانت على مرمى البصر من نافذة غرفتى.

حينها لم يكن الجيش الوطنى الليبى، كان أن أتم تحرير كامل بنغازى، ظلت بعض الجيوب الإرهابية داخل نسيج المدينة، وعشت وعاصرت بقية عملية التطهير، لما ترتفع «الزغاريد» أعلم أن شهيدًا ليبيًا وطنيًا ارتقى فى عملية الكرامة تحريرًا لأرضه، مشاهد مفزعة وقصص مرعبة دونتها فى حينها، كان الموت يغلف الأجواء، حتى أن دقات قلوبنا تعلو توترًا وألمًا فوق أصوات المدافع والرصاص، ثمن غالٍ دفعته ليبيا، بل والأمن القومى العربى بأكمله حتى نصل إلى تلك اللحظة. حيث أجلس شاهدًا ومراقبًا وقائع «إعلان القاهرة» من قصر الاتحادية.

■ ■ ■ ■ ■

 هنا فى القاهرة وداخل مقر إدارة الحكم، يقف الرئيس عبدالفتاح السيسى متوسطًا المشير «خليفة حفتر» بزيه المدنى، والمستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبى - المؤسسة الليبية الوحيدة المنتخبة والكيان المؤسسى الوحيد الذى يعبر عن ارادة قانونية للشعب الليبى - هنا يقف السيسى على أرض الواقع متحدثًا إلى العالم واضعًا المجتمع الدولى أمام مسئولياته الإنسانية.

يقف السيسى واضعًا أمام عينيه مصير الشعب الليبى. يرفض صياغة البيانات والمعاهدات بمداد الدماء الليبية. تأبى كرامته وكرامة وطنه أن تكون ليبيا محلًا لمساومات دولية أو إقليمية. وبينما يتحرك البعض بنوايا استخدام ليبيا وأرضها وشعبها وثرواتها وسيلة وأداة فى صراع دولى بات مكشوفًا للجميع، فإن مصر تتحرك فى وضح النهار وأمام العالم لإنقاذ ليبيا، الهدف والغاية من قبل ومن بعد، فإن مصر لم تتقدم نحو الملف الليبى إلا ارتكازًا على ثوابت محددة يعلوها هدف إرساء قواعد الدولة الوطنية الليبية. لقد كانت ولا تزال الثوابت المصرية فى القضية الليبية محددة ومعلنة للجميع باعتبارها امتدادًا لفلسفة الدبلوماسية المصرية المرتكزة على تحقيق قيمة الدولة الوطنية ومن هذا المنطلق، فإن مصر وهى فى اتجاهها نحو ليبيا لم ولن تتخلى عن الثوابت التالية:

- وحدة وسلامة الأراضى الليبية.

- استعادة الدولة الليبية لمؤسساتها الوطنية.

- إحياء المسار السياسى.

- الالتزام بمبادئ القانون الدولى.

- إخراج المرتزقة من كافة الأراضى الليبية. 

- دعم الجيش الوطنى الليبى لاستعادة السيادة الليبية برًا وبحرًا وجوًا، والقيام بجهود مكافحة الإرهاب.

- إعادة سيطرة الدولة على المؤسسات الأمنية.

- احترام التنوع والتمايز الليبى جغرافيًا وسكانيًا.

- منع وصول الأموال الليبية للميليشيات. 

- التوزيع العادل للموارد الليبية لكل المواطنين.

- توحيد المؤسسات الاقتصادية والنقدية.

- وضع خارطة طريق سياسية تستمد شرعيتها من إرادة الناخب الليبى.

بهذه الثوابت تدار القضية الليبية فى ذهنية الدبلوماسية المصرية.

■ ■ ■ ■ ■

  لقد صدر إعلان القاهرة بمثابة دعوة للسلام والقانون والشرعية الدولية فى مواجهة آلة حرب أدارها المحتل التركى بمعاونة طابور الخيانة الإخوانى ومرتزقة الإرهاب من كل بقاع الارض، بعد أن قدمت تركيا أول نموذج عملى لسابقة عسكرية شهدت اندماجًا بين الجيش النظامى وجماعات الإرهاب!

فى المقابل قدمت مصر فى مواجهة آلة الحرب التركية آليات للسلام وحددت بنودها التالية:

- العودة إلى مخرجات قمة برلين كحل سياسى شامل.

- استكمال أعمال الجنة العسكرية (٥+٥) برعاية الأمم المتحدة.

- البدء فى عملية انتخابية تمثل فيها الأقاليم الثلاثة تحت رعاية الأمم المتحدة.

- وضع آلية محددة لتوزيع الحقائب الوزارية. 

- تشكيل لجنة من الخبراء القانونيين والدستوريين والمثقفين تشرف عليها الأمم المتحدة لصياغة دستور ليبى جديد يُجرى الاستفتاء الشعبى عليه.

- تحديد مدة انتقالية لإعادة تنظيم مؤسسات الدولة الليبية.

وبهذه الآليات تكون مصر قد مكنت الأطراف الليبية الشرعية من وضع خارطة طريق تخضع للرقابة الدولية وتستمد شرعيتها من إرادة الشعب الليبى.

■ ■ ■ ■ ■

  فى كل تفاصيل البيان تجد القاهرة، قد التزمت التزامًا صارمًا بثوابت محددة، شكلت إطار الإعلان بوضوح، وعبرت عن منهج مصرى ثابت فى تفاصيل التفاعل الدبلوماسى مع المجتمع الدولى، وقد تمثلت تلك الثوابت فيما يلى:

- حق الشعب الليبى فى تقرير مصيره.

- الاستناد إلى الإرادة الشعبية كمصدر للشرعية.

- حفظ الكيان المؤسسى والقانونى للدولة الوطنية.

- صون وتمكين الجيوش الوطنية.

- الرفض التام لدعوات التقسيم والتفتيت. 

- الرفض التام لادماج الميليشيات فى أى مسارات سياسية أو دبلوماسية.

واستنادًا على هذه الثوابت وضعت مصر المجتمع الدولى أمام حالة من المنطق القانونى فى مواجهة عمل عسكرى تركى غير مشروع.

■ ■ ■ ■ ■

  ردًا على المبادرة المصرية، فقد سارعت الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وألمانيا وإنجلترا، بالترحيب بها وإعلان تأييدها وكذا السعودية والإمارات والبحرين والأردن بعد أن قدمت نموذجًا قانونيًا محكمًا يستند إلى الشرعية الدولية ويحيل الأمر إلى الارادة الشعبية الليبية.

وفى المقابل تجد صمتًا مغاربيًا لا يفسره إلا سيطرة تيارات الإسلام السياسى أو المصالح الضيقة على إدارة البلاد فتحولها إلى أداة للاستخدام التركى على أجندة التنظيم الدولى.

وبرغم استمرار الصلف التركى، إلا أن ما قدمته القاهرة، ارتكز على تمكين الارادة الليبية الشعبية فى مواجهة محتل تركى، جاء للسطو على مقدرات وثروات الشعب الليبى، فأصبحت مقاومته فرضًا وطنيًا حالًا على كل ليبى وطنى مخلص. لقد تحركت مصر نحو ليبيا من منطلق دبلوماسية الإخلاص فى مواجهة دبلوماسية الإرهاب التركي، بل إن التحرك المصرى تحول إلى مناورة كاشفة لموقف الأطراف المختلفة وأهدافها ورؤيتها للشعب الليبى، فأفرزت بوضوح من جاء لخدمة الشعب الليبى ومن جاء لاستخدامه.

■ ■ ■ ■ ■

  «إعلان القاهرة» الذى حدد ساعة الصفر لوقف إطلاق النار، استعدادًا للجلوس على مائدة التفاوض السياسى، معطيًا مهلة لكل الأطراف 48 ساعة، كان كاشفًا لمن يستثمر فى السلام وحقن الدماء ومن اختار الدمار ونهب الثروات سبيلًا آخر للاستثمار.

جنوح القاهرة من خلفها المجتمع الدولى إلى حقن الدماء ووقف العمليات العسكرية، لا يعنى استسلامًا أو ضعف حيلة، بل إنه حالة مكاشفة سياسية للمواقف على الأرض، خصوصًا أن الأراضى الليبية، أضحت مسرحًا للتفاعلات وصراعات دولية الخاسر الوحيد فيها هو الشعب الليبى.

القاهرة التى خرجت بمبادرة دبلوماسية شاملة هى نفسها التى خرجت على لسان رئيس مجلس النواب المصرى، محذرًا ومنبهًا أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدى أمام أى عدوان أو عمل يمس أمنها القومى فى محيطه البعيد فيما بالنا بمحيطه اللصيق.

إذا كان التحذير الأول، أطلقه الرئيس السيسى فى الاتحادية بكلمته التى حذر فيها أى قوى ستلجأ إلى العنف مكررًا التحذير مرتين للقاصى والدانى، ومعلنًا من تحت سماء أرض الكنانة أن الأمن القومى الليبى جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، جاءت كلمة د.على عبدالعال أمس الأول أمام مجلس النواب، مكملة ومتمة وشارحة بشكل وافٍ، أن مصر لن تسمح بالعبث فى حديقتها الخلفية. أو أن تكون أراضى ليبيا مرتعًا للمرتزقة الأتراك والسوريين. وأن رفض السراج - ومن خلفه- الأتراك والقطريين يجعل كل السيناريوهات مفتوحة أمام المجتمع الدولى الذى انتهى إلى الحل السياسى ومن قبله مصر التى يُشرع لها القانون الدولى الحفاظ على أمنها القومى.