السبت 29 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الرواية..  حين تتأمل العالم

الرواية.. حين تتأمل العالم

يبدو التاريخ إهابا متسعا لعشرات الحكايات، وفضاء متجددا للتأويل، وتبدأ رواية «تاريخ آخر للحزن» للكاتب الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح، والصادرة حديثا عن دار( ميريت)، من لحظة فارقة فى عمر الأمة المصرية، وهى لحظة دخول الاحتلال الإنجليزى 1882 وفشل ثورة عرابي، ينتخب الكاتب إذن لحظة جمالية يجدل من خلالها التاريخى بالفني، وتشكل التقديمة الدرامية التى تمثل افتتاحية للنص الروائى هنا جزءا مركزيا من متنه السردي، ففيها تبدو إحدى تيمات الرواية، وتتمثل فى ثنائية «المقيم والغازي»، «الفلاحون والسادة»، عبر منطق الوسية الحاكم لقرية مصرية «نوسا البحر» فى المنصورة. كما يظهر فى التقديمة الدرامية أيضا بعض شخوص الرواية المركزيين، والحاضرين عبر الغياب الدال والمحرك للفصول الستة التى تشكل متن الرواية، فحلاوية والشيخ حسنين اللهفة يحضران عبر أحفادهما فيما بعد، بل وعبر آلية الشبح التى تسكن الرواية فى تماس مع التراث الشعبى فى الريف المصرى والمحمل بحكايات أسطورية وخيال متواتر يشكل جزءا من فضاء الرواية والمكان معا. 



ثمة فجوة زمنية تتلو التقديمة الدرامية يكمل فيها المتلقى بعضا من فراغاتها، ويلعب السرد عبر آلية الاسترجاع التى تتلو بداية خط القص الرئيسى فى الفصل الأول دورا مماثلا، فنرى تداخلا بين الأزمنة داخل النص، حيث البدء من نقطة زمنية (1882)، ثم قفزة زمنية إلى العام 1952، فى توظيف لتقنية الاستباق، ثم الارتداد إلى الوراء من جديد، وتظل تلك المراوحات الزمنية وصولا بالمسار السردى إلى اللحظة التى تسبق العام 2011. 

فى النص انتخاب جمالى آخر للحظة مفصلية تتصل بثورة يوليو 1952 وهى اللحظة التى يتزامن معها مولد «منجى أرسلان» البطل المركزى فى الرواية، المنجى الذى يحيا منذ مولده عالما ممزقا بامتياز يبدو فيه بطلا إشكاليا أحيانا، ليس سلبيا وليس إيجابيا. قد يكتفى بالعزلة ومصادقة الرفاق فى «قعدة الخميس» التى تبدو امتدادا - شأن أشياء أخرى- فى الرواية لعالم الأب عبدالباسط أرسلان، وبما يعنى أن ثمة حركة دائرية لا تسيطر على تجليات الزمن فى الرواية فحسب، ولكنها تهيمن على حركة الشخوص وعلاقاتهم الاجتماعية أيضا. 

يتجلى الزمن فى علاقته بالمكان هنا، ويتجادلان عبر جغرافيا السرد الوسيعة، قرى المنصورة المختلفة، والقاهرة بأحيائها المتنوعة، وفى النص أيضا نرى تلك السخرية المضمرة فى الحكاية الفرعية لمعالى حلاوة وزوجها فيما بعد إيهاب البوشي: «مع العمل الجديد انتقلت للعيش فى حجرة قريبة من المصنع وراحت تقضى وقتها بين العمل وحجرتها، وحتى تشغل ما يتبقى من وقتها اشترت جهاز كمبيوتر مستعمل وحصلت على وصلة نت، ثم أنشأت حسابا على الفيس بوك باسم زهرة السماء، وضعت فى البروفايل صورة لهند رستم فى ملابس شبه عارية، وقالت فى التعريف بنفسها إنها طالبة فى كلية التجارة. تقاطر الرجال يطلبون صداقتها وقضت الليالى فى الشات معهم، إلى أن جاءها طلب صداقة من القلب الجرئ؛ الكابتن إيهاب البوشي». 

تتعدد التقنيات داخل الرواية، بدءا من المونولوج الداخلى الذى يمثل ونسة للشخوص، يكشفون فيها عن هواجسهم وأمانيهم المقموعة، مثلما تلعب التناصات الشعرية مع أبيات ابن عروس، الغارقة فى مصريتها، وفى استحضار عوالم ممتدة من الأسى والحسرة، والإحساس العارم بالإخفاق الذى يصحب «منجى أرسلان» ويجعله ينتحب فى نهاية الرواية، حيث يعود إلى السرايا القديمة المحاطة بالأسرار والعوالم العتيقة وحكايات العفاريت، ممددا على سريره مصدرا نشيجا يشق سكون الليل ويكرس للغموض الذى يلف المكان، وحينما يصل إليه المهندس يحيى وبعض أبناء البلدة ينهض ذاهلا ليسقط على الدرج وفى عينيه معالى وهى تغادر بحملها، وتصبح هذه النهاية الدراماتيكية ابنة لروح النص المثقل بالفقد و الخيبة والإخفاق. 

تتجادل الحياة والموت هنا، ويحضر الموت بوصفه زائرا ثقيلا أحيانا وناعما أحيانا أخرى، لكنه الضيف الدائم الذى يحاصر الجميع فى نهاية المطاف، فلا تخلو منه الرسائل المتبادلة بين الشخوص من قبيل رسالة الأب الشيخ عبدالباسط أرسلان إلى ولده المحبوس فى ليمان طرة «منجي»، ليخبره بأن عمته نظلة هانم قد ماتت « كل شيء يا منجى كان مكسوا بالموت»، ويمارس الكاتب لعبا على فضاء الصفحة الروائية فى المقاطع التى تختص بالرسائل المتبادلة بين الشخوص، حيث نراها مكتوبة بسُمك مغاير عن الخط المكتوب به النص، وربما احتاج النص هنا إلى فواصل رقمية تعلن انتهاء السرد فى مقطع، واستئنافه عبر مقطع جديد. 

والوحدات السردية يسلم بعضها إلى بعض هنا فى دوائر من الحكى المعتمد على تعدد الحكايات الفرعية وانطلاقها من رحم الحكاية الرئيسية، ففى البدء كانت حلاوية والشيخ حسنين اللهفة فى المفتتح، ثم يتبع ذلك مجموعة من الحكايات المنطلقة من نوسا البحر، وحكاية عبدالباسط أرسلان تعقبها حكاية ابنه البطل المركزى فى الرواية منجى أرسلان. 

تبرز فى الرواية صيغة السرد التحليلي، حيث تلعب الكتابة هنا على استجلاء المساحات النفسية داخل الشخوص، وإعطاء السارد الرئيسى مساحات أكبر من الغوص عميقا داخل النفس البشرية دون الاكتفاء برصد الواقع الخارجى وتمثيلاته الظاهرية. 

وبعد.. يعطى أحمد صبرى أبو الفتوح نفسه فرصة واعدة لتأمل عالمه هنا فى هذه الرواية، فيكشف عن وجه مغاير للأسى، ربما يسكن فى التفاصيل الصغيرة أو فى الإخفاق العام أو فى الارتحال القلق لمنجى أرسلان أو فى النهايات الدراماتيكية بالموت والفقد أو فى ذلك كله مشفوعا بلغة نافذة صوب الروح، ربما احتاجت فى الحوار بين الشخوص أن توظف العامية بخفتها وروحها الحرة، فى نص يعد من أكثر الروايات نضجا واكتمالا فى الآونة الأخيرة، نرى فيه الشخوص يتحركون على مسرح الحياة فى رواية اعتمدت كثيرا على المشهدية البصرية، وعلى إمكانية أن ترى هذا العالم وأنت تقرؤه بمحبة وجمال نادرين.