الخميس 9 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
سيناء الخضراء.. من نصر التحرير إلى نصر التنمية الزراعية

سيناء الخضراء.. من نصر التحرير إلى نصر التنمية الزراعية

بمناسبة الذكرى 52 لنصر أكتوبر المجيد.. فى مثل هذه الأيام من كل عام، تقف مصر شامخة تستعيد صفحات العزة والفخر من نصر أكتوبر المجيد، الذى أعاد للوطن كرامته وأرضه، وكتب بدماء أبطاله أعظم دروس التضحية والانتماء. واليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك النصر، تخوض الدولة المصرية معركة جديدة لا تقل شرفًا ولا تحديًا: معركة البناء والتنمية فى سيناء، لتتحول أرض المعارك إلى أرض المعجزات، ولتُروى رمالها بعرق المزارعين بعد أن رُويت يومًا بدماء الشهداء.



ما يجرى فى سيناء اليوم ليس مجرد مشروعات زراعية أو استصلاح أراضٍ، بل ملحمة وطنية جديدة تسعى من خلالها مصر لترسيخ أمنها القومى من خلال التنمية، وتحويل “أرض الفيروز” إلى ركيزة للأمن الغذائى ومحور للتنمية المستدامة.

من التحرير إلى التعمير.. رؤية مصر 2030 لسيناء

أدركت القيادة السياسية أن حماية سيناء لا تتحقق بالسلاح وحده، بل بالزراعة والبشر والاستثمار، فجاءت رؤية مصر 2030 لتضع تنمية سيناء فى قلب أولويات الدولة، باعتبارها بوابة الأمن القومى ورافعة النمو الاقتصادى.

فمنذ عام 2014، تم ضخ استثمارات تجاوزت 700 مليار جنيه فى مشروعات البنية التحتية والزراعة والمياه والطاقة والطرق والمدن الجديدة فى سيناء. وبهذا أصبحت التنمية الزراعية هناك ليست رفاهية، بل خطة استراتيجية لبناء الإنسان وتأمين الأرض.

ولم تعد سيناء جزيرة معزولة عن الوطن، فقد تم ربطها بشبكة من الأنفاق العملاقة (تحيا مصر 1 و2 بالإسماعيلية، 3 يوليو ببورسعيد، الشهيد أحمد حمدى 2 بالسويس)، لتفتح الطريق أمام تدفق البشر والبضائع والمشروعات التنموية، وتجعلها جزءًا حيًا من جسد الوطن الموحد.

 المياه.. البداية الحقيقية للحياة

الماء هو سر الحياة، وبدونه لا زراعة ولا استقرار. لذلك جعلت الدولة من إدارة الموارد المائية فى سيناء أولوية قصوى، فأنشأت محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر – الأكبر من نوعها فى العالم – بطاقة 5.6 مليون متر مكعب يوميًا، لرى أكثر من 475 ألف فدان فى شمال ووسط سيناء.

كما جرى تشغيل محطة المحسمة بطاقة مليون متر مكعب يوميًا، لإعادة استخدام المياه بعد معالجتها رباعيًا لتصبح صالحة للرى الآمن والمستدام. وإلى جانب ذلك، أُنشئت محطات لتحلية مياه البحر بطاقة إجمالية تتجاوز 1.1 مليون م³/يوم لتوفير مياه الشرب والزراعة فى مدن الجنوب والساحل.

وفى المناطق الجبلية، تم تنفيذ 170 مشروعًا للحماية من السيول، شملت سدودًا وبحيرات وخزانات، لتحويل مياه الأمطار والسيول من خطر إلى مصدر تنمية يعزز الأمن المائى والبيئى.

الزراعة.. عمود التنمية الخضراء

تُعد الزراعة قلب التنمية السيناوية، ومحركها الأول. فقد وضعت الدولة هدفًا واضحًا يتمثل فى استصلاح وزراعة نحو مليون فدان بحلول عام 2030، مستندة إلى المياه المعالجة والجوفية وتقنيات الرى الحديث.

حتى عام 2025، تم بالفعل زراعة أكثر من 285 ألف فدان بمحاصيل استراتيجية تشمل القمح والشعير والذرة الصفراء والبصل والبطاطس والخضراوات والنباتات الطبية والعطرية، إلى جانب التوسع الكبير فى زراعة الزيتون والنخيل.

وتشير البيانات إلى أن سيناء تحتل اليوم موقعًا متقدمًا فى إنتاج الزيتون فى مصر، إذ تضم أكثر من 25 ألف فدان مزروعة، وتُزرع حاليًا 5 ملايين شتلة زيتون جديدة ضمن الخطة القومية للتوسع فى إنتاج الزيوت المحلية وتقليل الاستيراد.

وفى مناطق الوسط، تنتشر زراعة النباتات الطبية والعطرية مثل الزعتر والميرمية والبابونج، وهى محاصيل عالية القيمة الاقتصادية تُستخدم فى الصناعات الدوائية والغذائية، وتُعد من أنجح الزراعات التصديرية التى تدعم الاقتصاد الأخضر.

بحيرة البردويل.. جوهرة الشمال

فى قلب شمال سيناء، تلمع بحيرة البردويل كواحدة من أنقى بحيرات العالم وأكثرها إنتاجًا للأسماك عالية الجودة. تنتج البحيرة نحو 40 ألف طن سنويًا من الأسماك تُصدر نسبة كبيرة منها إلى أوروبا.

وقد تم تنفيذ مشروع ضخم لتطهير البواغيز، وإنشاء مصانع تعبئة وتجميد حديثة، وتطوير المراكب وموانئ الصيد، مما وفر مصادر رزق مستقرة لأكثر من 5000 صياد وأسرهم، وحقق توازنًا بيئيًا واقتصاديًا نادرًا.

التكامل الزراعى والصناعى.. من الحقل إلى السوق

التنمية الزراعية فى سيناء لا تتوقف عند حدود الزراعة، بل تمتد إلى سلاسل القيمة المضافة التى تشمل التصنيع والتعبئة والتصدير.

فقد أُنشئت مجمعات صناعية للتمور والزيتون، ومصانع تعبئة وتغليف للخضر والفاكهة فى العريش وبئر العبد وشرق بورسعيد، إلى جانب المنطقة الصناعية بشرق بورسعيد التى تُعد مركزًا لوجستيًا لتصدير المنتجات الزراعية والسمكية إلى الأسواق العالمية.

وفى الجنوب، تشهد مدن الطور وسانت كاترين توسعًا فى الزراعة العضوية والسياحة البيئية، مع اعتماد الطاقة الشمسية فى تشغيل أنظمة الرى، لتصبح سيناء نموذجًا متكاملًا للتنمية الخضراء والمستدامة.

الإنسان أولًا.. المجتمعات الزراعية الجديدة

تؤمن الدولة أن الزراعة لا تزدهر إلا بوجود مجتمع مستقر حولها، لذلك أُقيمت فى سيناء 18 تجمعًا تنمويًا متكاملًا تضم وحدات سكنية ومزارع صغيرة ومدارس ومساجد ومراكز خدمية وآبار مياه وبيوتًا زراعية، لتوطين أهل سيناء وتأصيل قيم الولاء والانتماء ضمن خطة “تأمين سيناء بالبشر”.

وقد تم توطين أكثر من 42 ألف أسرة حتى عام 2024، مع توفير فرص عمل دائمة فى الزراعة والتصنيع والخدمات، مما يرسخ الاستقرار الاجتماعى ويحوّل البدو الرحّل إلى منتجين يشاركون فى الاقتصاد الوطنى.

البنية التحتية.. شرايين التنمية

لم يكن من الممكن تحقيق هذه الطفرة الزراعية دون بنية تحتية قوية. فقد تم تنفيذ شبكة طرق تمتد لأكثر من 3400 كيلومتر تربط القرى والمزارع بالمدن والموانئ، وتطوير موانئ العريش ونويبع وشرم الشيخ لتسهيل حركة الصادرات.

كما تم مد شبكات الكهرباء والغاز الطبيعى إلى أغلب مناطق شمال ووسط سيناء، وإنشاء محطات للطاقة الشمسية لخدمة التجمعات الزراعية البعيدة، لتصبح سيناء أكثر المناطق المصرية تكاملًا من حيث الخدمات الحديثة.

العلم والبحث.. عقول تدعم التنمية

يُشارك مركز بحوث الصحراء ومركز البحوث الزراعية بفاعلية فى دعم التنمية الزراعية فى سيناء من خلال خمس محطات بحثية رئيسية فى القنطرة شرق والوظة والمغارة وجنوب سيناء.

تُجرى هذه المحطات تجارب ميدانية لتحديد أنسب المحاصيل، وتنتج الشتلات المحسنة، وتدرب الشباب على الزراعة الذكية والزراعة المائية، وتعمل على إدخال أساليب الرى بالتنقيط والرش الموفرة للمياه، مما جعل سيناء مختبرًا عمليًا لتطبيق أحدث التقنيات الزراعية فى مصر.

التمويل وتمكين الشباب

إيمانًا بدور الشباب فى معركة التنمية، أطلقت الدولة مبادرات تمويلية زراعية بفوائد ميسرة، وخصصت أراضى بحق الانتفاع لصغار المزارعين، كما موّلت أكثر من 9000 مشروع صغير ومتوسط فى مجالات الزراعة والصناعات الغذائية والحرف اليدوية بقيمة تجاوزت 800 مليون جنيه، مما وفر نحو 23 ألف فرصة عمل مباشرة.

التحديات.. وإرادة التغلب عليها

رغم الإنجازات الكبرى، لا تخلو مسيرة التنمية من تحديات. فسيناء تتسم بطبيعتها الجبلية الوعرة، وندرة الأمطار، وبعد المسافات عن مراكز التصنيع. كما تتطلب المشروعات هناك تكلفة أعلى فى مد البنية الأساسية وتوفير الأمن والخدمات.

لكن الدولة واجهت هذه التحديات بإرادة لا تلين، عبر تحفيز القطاع الخاص للمشاركة، وتقديم حوافز استثمارية وضريبية، إلى جانب اعتماد الزراعة بالعقود المضمونة لتشجيع المزارعين وربط الإنتاج بالتصنيع، وتعزيز منظومة التسويق الزراعى.

نحو مستقبل أخضر مستدام

تتطلع الدولة حتى عام 2030 إلى مضاعفة الرقعة الزراعية فى سيناء لتصل إلى نحو نصف مليون فدان إضافية، مع التوسع فى الصناعات الزراعية، وتحقيق التكامل بين الزراعة والطاقة والسياحة البيئية.

كما تسعى لتطوير الموانئ والمناطق اللوجستية لجعل سيناء مركزًا لتصدير المنتجات المصرية، خاصة الزيتون والتمور والنباتات الطبية والعطرية، بجانب التوسع فى مشروعات الطاقة المتجددة التى تخدم الزراعة والصناعة معًا.

فى أكتوبر 1973، كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس لتحرير الأرض، واليوم يعبر الفلاحون والمستثمرون والمهندسون الأنفاق ذاتها ليزرعوا ويبنوا ويعمروا.

لقد تغيّر المشهد من نيران الحرب إلى خضرة الحقول، ومن دوى المدافع إلى صوت المياه فى قنوات الرى، لتصبح التنمية الزراعية فى سيناء استمرارًا لمعركة أكتوبر، ولكن بأدوات جديدة: العلم والعمل والإنتاج.

إن ما تحقق فى سيناء خلال السنوات الأخيرة يؤكد أن مصر تخوض معركة التنمية بنفس روح أكتوبر. فكما استعادت الأرض بالسلاح، فهى اليوم تُعيد إعمارها بالعلم والعمل والإرادة.

تحولت سيناء من أرضٍ جرداء إلى واحة خضراء تفيض بالخير والإنتاج، ومن حدودٍ خاوية إلى قلبٍ نابض بالأمل، يحتضن البشر والمشروعات معًا.

ومع استمرار الجهود الحكومية والبحثية والاستثمارية، ستظل سيناء رمزًا لقدرة المصريين على تحويل التحدى إلى إنجاز، والصحراء إلى حياة، والنصر العسكرى إلى نصرٍ تنموى وزراعى يليق بمصر الجديدة.

ففى الذكرى الثانية والخمسين لنصر أكتوبر، يحق للمصريين أن يفتخروا بأن أرض البطولات أصبحت اليوم أرض الإنتاج، وأن “سيناء الخضراء” ليست فقط بوابة الأمن القومى، بل بذور النهضة الزراعية لمستقبل الوطن كله.