الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أبناؤنا.. والمقصورة الأخيرة فى قطار الحياة

أبناؤنا.. والمقصورة الأخيرة فى قطار الحياة

الأب والأم دوما مصدر الأمان لدى الأبناء.. فماذا لو غابا؟! هل يستطيع الأبناء الصمود فى الحياة دونهما؟!  دعونا نبحث عن إجابة من خلال ما قصه علينا الأديب العالمى «دوستويفسكى» عن الطفل «مارتان» الذى اعتاد أن يذهب كل عام بصحبة والديه فى القطار لزيارة جدته لقضاء عطلة الصيف عندها، فيتركانه ويعودان فى اليوم التالى. لكنه فى ذات عام طلب منهما أن يذهب بمفرده إلى جدته صائحًا:أصبحت كبيرًا الآن!



بعد نقاش قصير وافقا على طلبه، وفى اليوم المحدد وقفا على رصيف المحطة يوصيانه بتكرار بعض النصائح... وهو يتأفف... لقد سمعت ذلك منكما ألف مرة! وقبل أن يتحرك القطار بلحظة، اقترب منه والده وهمس فى أذنه؛

«خذ، هذا لك إذا ما شعرت بالخوف أو بالمرض» ووضع شيئا بجيب طفله. جلس الطفل وحيدًا فى القطار دون والديه لأول مرة، يشاهد تتابع المناظر الطبيعية عبر النافذة، ويسمع ضجة الناس الغرباء تعلو حوله، يخرجون ويدخلون إلى مقصورته...حتى مراقب القطار تعجب من وحدته وحاول الاستفسار، حتى إن امرأة رمقته بنظرة حزينة.. فارتبك «مارتان» وشعر بأنه ليس على ما يرام، واعتراه الخوف...فتقوقع ضمن كرسيه واغر ورقت عيناه بالدموع، فى تلك اللحظة تذكر همس أبيه وأنه دسّ شيئًا فى جيبه لمثل هذه اللحظة. فتّش فى جيبه بيد مرتجفة وعثر على الورقة الصغيرة... فتحها وقرأ: «يا ولدى، أنا فى المقصورة الأخيرة فى القطار».

لقد دس الأب فى هذه القصة فى جيبه صمام أمان مشروطًا بالاحتياج إلى الشعور بوجود السند عند الخوف أو إذا ما شعر الابن بإعياء أو تعب، وهذا يدل على بعد النظر الذى يتحلى به هذا الأب وخبراته الحياتية التى جعلته يأمن على طفله بفكرة الورقة المنقذة ليستمد الطفل منها الأمان والسكينة إذا اجتاحته المشاعر السلبية فى أول الطريق إلى الحياة دون رفقة والديه وحمايتهما،فقد ناقش الأبوان أمر طفلهما وحاجته إلى الثقة بنفسه وقدراته فى الاعتماد على نفسه فى السفر لجدته،  دون رعاية منهما، فقد تعاظم لديه الشعور بأنه لم يعد طفلًا، ويستطيع الانطلاق بمفرده فى رحاب الحياة، وقد حالفهما الصواب بمنحه الحرية التى طالب بها، لكنهما حصناه بالوصايا، وبالورقة السحرية التى دسها الأب فى جيب ابنه. فهذا ما ينبغى على الآباء والأمهات اتباعه فى تربية الأبناء، أن نطلق لهم العنان يخوضون الحياة ويعيشون تجاربهم الخاصة، ويشكلون قناعاتهم، مما يكسبهم الثقة بأنفسهم، لكننا نظل نراقبهم من بعيد كعيون حارسة حتى لو من المقصورة الأخيرة فى قطار الحياة ما دمنا أحياء، فرعايتهم واجب حتمى لكن دون أن يكون مقيدًا لحريتهم ولاطامسا لشخصيتهم، بل مسهمًا فى بنائها ومانحًا لهم مصدرًا للسند والأمان فى كنف المحبة والعطاء الأبدى المستمد من حضن الوالدين وحرصهما الدائم على ما يحقق نفع الأبناء ومصالحهم وتأهيلهم للمضى قدمًا فى خضم الحياة الرحبة بمواقفها وشخوصها وأحداثها والأقدار المتربصة، وعلى الأبناء أن يقدروا هذا الدور العظيم الذى يقوم به الوالدان عند البلوغ وتنامى الفهم فى تربيتهم وتنشئتهم وتحصينهم من متاعب وصعوبات تخبئها الأقدار وتظهرها مباغتة؛ ولولا ما تربوا عليه استطاعوا المواجهة والسير قدمًا، فعن رعاية الأهل لا غنى!  

 فلنحتفظ إذن بمقاعدنا فى المقصورة الأخيرة دوما من أجلهم مهما تمردوا علينا! يقينا هذا حقهم علينا فلابد أن نعينهم على الصمود فى الحياة فى وجودنا أو غيابنا!