الإثنين 1 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كلمة مدح كادت تقتل د.يوسف إدريس!

كلمة مدح كادت تقتل د.يوسف إدريس!

كلمة ثناء أو مدح قالها د.يوسف إدريس لسائقه كادت تنهى حياته، كلمة مدح عابرة تسببت فى حادث مروع ليجد نفسه ملقيا على الأرض أمام وابور زلط تحت رحمة عجلاته!!



والحكاية العجيبة رواها د.يوسف إدريس فى مقال موجع وممتع عنوانه «كلمة الثناء قد تقتل أحيانا» قال فيه:

«قابلت اليوم الرجل الذى كاد يقتلنى مرة بسبب كلمة ثناء عابرة قلتها له، كانت مفاجأة لكلينا، فلم أكن أتوقع أن يعمل «عم عفيفى» سائق تاكسى بعد إحالته إلى المعاش، وهو لم يكن يتوقع أبدا أن يكون زبونه هذه المرة هو نفس الطبيب رئيسه السابق فى الصحة، ولكنها الصدف المحضة أثرت أن تجمعنا، وهى التى أعادت إلى ذاكرتى أيام الصحة وأوبئتها ومشاويرها، والعربة الفورد المتهالكة التى كثيرا ما خرجت بها مع عم عفيفى فى مأموريات رسمية، وكان للعربة أكثر من سائق، وكانوا يتمتعون جميعا بخاصية البطء الشديد، والقلب الميت، ماعدا عم عفيفى المتحمس السريع الذى كان رغم هذا أكبرهم  سنا!

وحدث أن بلغ إعجابى به ذات يوم أن قلت له مادحًا أنه أسرع سائق فى القاهرة، والحقيقة كان قولًا «أغبر» فما من مرة ركبت فيها العربة بعد هذا إلا وأركبها وأركبنى ألف عفريت، حتى لقد كنت أقطع الرحلة وأنا نصف واقف أكاد لولا الحياء أن أقفز من النافذة، أو أستغيث بالمارة وطبعا كنت لا أسكت «طوال الطريق استحلفه وأرجوه وأحيانا أستعمل سلطتى وآمره وأنهره وعبثًا ما كنت أحاول فقد كان يأخذ كلامى على محمل آخر، يعتقد أنى أطلب منه أن يبطىء لأنى أشك فى قدرته على القيادة السريعة ولهذا كان يندفع بسرعة أكبر ليثبت لى أنه لا يزال هو الشخص الذى قلت عنه يومًا أنه أحسن سائق بالقاهرة.

والنتيجة أن حدث ما كان لابد أن يحدث يومًا.. ووجدت نفسى ذات مشوار ملقيا على الأرض أمام وابور زلط تحت رحمة عجلاته التى لا ترحم، فقد اصطدمت «الفورد» به صدمة بلغ من شدتها أن حطمت المقدمة - مقدمة عربتنا طبعا - وفتحت أبوابها قسرًا، وألقتنى أنا أمام الوابور وجعلت عم عفيفى يغطس فى الدواسة!

ويكمل د.يوسف إدريس قائلا: حكاية صغيرة كما رأيتم ولكنها لقنتنى درسًا لا أزال أعيه، إذ دلتنى يومها على خطورة الكلمة وبالذات كلمة الثناء، كلمة ثناء صغيرة قد تقولها حتى وأنت غير مؤمن بها ممكن أن تكهرب شخصًا بريئا، وممكن أن تدفعه للنجاح الهائل أحيانا، وأحيانا للسقوط فى الهاوية أو على الأقل أمام وابور زلط!!

بل غيرت هذه الحادثة من مفهومى للغرور، فقد كنت أعتقد قبل ذلك أن الغرور شىء ينبع من داخل النفس ويجعل صاحبه يؤمن بأنه يملك قدرات هو فى الحقيقة لا يملكها، تأكد لى يومها أن الغرور شىء يفد على الشخص من  الخارج، من المحيطين به واللاصقين وأنه ينتج عن سماعه لكلمات الثناء فقط، فالكائن منا يتحرك إلى الأمام تحت تأثير قوتين متضادتين، قوة ثقته بنفسه وقوة عدم ثقته بها، قوة إيمانه بما لديه من ملكات وقوة إحساسه بنقص ما لديه من ملكات، قوة رضائه عن نفسه وقوة سخطه عليها.. قوة إحساسه أنه يصيب وقوة إحساسه أنه يخطئ!

والثناء فقط كالدفع من ناحية واحدة فقط يجعل خط حركة الإنسان ينحرف إلى الناحية المضادة ثم لا يلبث بمواصلة الثناء أن يزداد انحرافا، الغرور إذن نهاية وتوقف وشلل يصيب الإنسان سببه تلك الجرعات السامة من الثناء التى يسقيها له أناس يهمهم التقرب إليه،

جرعات يتناولها الإنسان بلا إحساس بخطورتها فى أول الأمر، ولكنها بمضى الوقت تصبح إدمانا فيسمع المغرور الثناء الواضح الزيف ومع هذا يطلبه ويفعل المستحيل ليظفر به حتى وهو يراه رياء وتملقا إذ لا يملك إلا أن يتجرعه!

لكى يظل الإنسان ماضيا فى حركته إلى الأمام لابد من كلمة أخرى تقال له، كلمة النقد، فالثناء من ناحية والنقد من ناحية أخرى هما الطريقة الوحيدة التى لا يعرف البشر سواها للحركة.

معك حق يا دكتور يوسف إدريس!