د.فوزى فهمى .. سيرة ومسيرة!
شاءت الأقدار أن تفرض على الساحة الثقافية المصرية؛ أن تودع ذات صباح شهيدًا من شهداء القلم الحر؛ ورائدًا جليلاً ممَّن يؤمنون بالدور العظيم الذى تلعبه الفنون والآداب فى حياة الشعوب؛ والقدرة على تغيير الواقع فى المجتمع إلى الأجمل.
وها نحن بكل الحزن نقوم بوداع الفارس النبيل أ.د.فوزى فهمى نرثيه بقلوبنا المحبة قبل أن نقرأ رثاءات أخرى تصدرتها وزارة الثقافة المصرية وكبار مسئوليها، وبعيدًا عن الرسميات لمست مدى الحزن الذى سيطر على الفنانة الدكتورة إيناس عبدالدايم حين توجهت إليها بواجب العزاء فى فقيد الثقافة فبادرتنى بقولها بكلمات تلقائية نابعة من القلب: «حزن الدنيا عليه والله كان حبيبى وقدوتى»، وكأنها لسان حالنا جميعًا تجاه هذا الفقد الصعب لهرم إنسانى فى المقام الأول، وثقافى وفكرى لما يتمتع به من اقتدار السيطرة عليك وأنت تطالع تلاوين من إبداعاته،: «فتصبح أسيرًا لأسلوبه خلال رحلة القراءة لنص من نصوصه دومًا، لمقدرته الشديدة على ضبط إيقاع ما يريد إيصاله لنا من مفاهيم، فهو يشرح الحاضر بإسقاطات شديدة الخصوصية ممتزجة بفلسفة الماضى ، ويترك للقارىء الواعى المثقف مهمة تفكيك معادلاته الموضوعية ، والوصول إلى ما وراء الدراما التى ينسجها فى وقائع مؤلفاته المسرحية»، وكأنما راوده حلم كتابتها منذ تخرج فى المرحلة الثانوية فهو صاحب حياة عريضة مذ خرج إلى الحياة فى أغسطس من العام 1938؛ تلك الحياة التى قضاها مؤمنًا بالحرية الفكرية؛ وراهبًا معتكفًا على مصادرالثقافة الجادة، لإيمانه بأنها خير زاد بديلاً عن الطعام ، وكانت خطواته الأولى بالمرحلة الابتدائية بمدرسة المعهد العلمى، ويكتمل تعليمه الثانوى بمدرسة على مبارك الثانوية الكائنة على أطراف حى الحلمية الجديدة بالقاهرة؛ وهو الحى الشعبى الذى يعطى صورة حقيقية لمفاهيم وثقافة «ابن البلد» المعجون بالجينات المصرية الأًصيلة، وكأن الفتى «فوزى فهمى» قد اتخذ من سيرة ومسيرة «على مبارك» العلمية سلوكًا ومنهاجًا لارتشاف العلم من منابعه الأصيلة، وكانت انطلاقته نحو الفن والأدب بالتمهيد بالالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية «قسم الدراما والنقد»، ثم منحه درجة الدكتوارة فى علوم المسرح سنة 1975، وقد توزع عطاؤه عبر مناصب فندب سنة 1978 عميدًا لمعهد النقد الفنى ثم وكيلاً لوزارة الثقافة .كتب للمسرح (عودة الغائب) فى العام 1977،و( الفارس والأسيرة ) فى العام 1979، و(لعبة السلطان) فى العام 1986، وقد اضطر فى لعبة السلطان إلى اللجوء إلى الرمز والإسقاط السياسى فى تحليل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكيفية إقرار العدل ومنح الحرية للبشر كافة؛ وأراد كاتبنا ومفكرنا الكبير أن يعالج صورة الحكم المستبد فى عصر الرّشيد أو غيره من العصور؛ وكانت تلك المسرحية بمثابة إرهاصة للطوفان الشعبى الذى ثار على الحاكم الذى ظل قابعًا على سدة الحكم لأكثر من ثلاثين عامًا، للتدليل على قوة وتأثير الفن ـ والمسرح بخاصة ـ على الاتجاهات السياسية فى بلدان العالم الثالث.
وجدير بالذكر ما أوردته فى مقال سابق لى عنه أنه استطاع باجتهاده الشخصى إنشاء المعهد العالى لفنون الطفل بأكاديمية الفنون، «لإيمانه بأن مصر البشر هى أهم عنصر فى بناء هذا البلد العظيم ، وتبدأ رفعته من إعلاء ثقافة الطفل وإيقاظ وعيه السياسى مبكرًا، ومن هذا المنطلق يعزى إليه الفضل فى ترجمة العديد من الكتب المتخصصة للأطفال، ليتولى عن جدارة مكانته كرئيس للمركز القومى لثقافة الطفل المصرى حينذاك، ويمهد السبيل له بكل الفنون من موسيقى ورسم ونحت، علاوة على كل فنون المسرح الذى عشقه ومنحه خلاصة فكره وعقله على مدى حياته، فهو الذى أخلص لأحلامه فى تنمية الإنسان المصرى وتدعيم ثقافتنا المصرية من خلال التلاحم والإطلالة على معظم ثقافات العالم المتحضر، فقام بإنشاء مركز اللغات والترجمة بالأكاديمية بغية تعليم طلاب المعاهد بها اللغات المختلفة ، وقام بتدعيمه بأول مكتبة مرئية وسمعية فى كل التخصصات، وهو مايحقق الثراء العلمى والمعرفى لكل الدارسين وغير الدارسين من محبى الفنون والآداب وأمدّها بكل التسجيلات النادرة من شتى بقاع العالم .»ناهيك عن إنشاء الحديقة الثقافية بالحوض المرصود بحى السيدة زينب منارة ثقافية للطفل المصرى.
والجدير بالذكر أن المهرجان القومى للمسرح المصرى فى دورته الثانية عشرة؛ أطلق جائزة لمسابقة النقد المسرحى باسم الناقد الدكتور فوزى فهمى الرئيس الأسبق لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عبر دوراته المتوالية، كما قررت أيضا فى الدورة الثالثة عشر، إطلاق جائزة البحث النقدى وقيمتها 10 آلاف جنيه مع الدرع وشهادة التقدير باسم الدكتور فوزى فهمى، وذلك اعتراف بفضله وريادته المهمة فى الكتابة المسرحية التى تواكب العصر وتخرج بالمسرح من عباءة ثقافة المسرح اليونانى القديمة، وإيجاد نسق لمسرح مصرى يخضع فى مقاييسه واتجاهاته وأهدافه لصالح المجتمع والبشر على الخريطة المصرية . ويبدو أن الكتابة للمسرح السياسى قد سببت له بعض المشاكل فى الصدام مع بعض الأجهزة الحكومية «الملكية أكثر من الملك»، فكانت «لعبة السلطان» هى آخر ما كتبه له.
وقد أصدر المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية كتابًا توثيقيا عن أستاذ الأجيال الدكتور فوزى فهمى ملحقًا به ملف صور وCD يستعرض أهم المشاهد والمونولوجات لأبطال مسرحياته من نجوم المسرح القومى، مثل الفنان محمود ياسين ونور الشريف وإلهام شاهين وعايدة عبدالعزيز وعبدالرحمن أبوزهرة ومحمد وفيق من خلال تلك المسرحيات.
ويتوالى الاعتراف بالفضل الكبير لعالمنا الجليل فى لفتة رائعة فيما أعلنه رئيس مهرجان المسرح التجريبى هذا العام الدكتور جمال ياقوت فى دورته الـ 28، إطلاق اسم الراحل القدير د. فوزى فهمى على الدورة الحالية من المهرجان تكريمًا لعطائه للمهرجان وللحركة المسرحية.بالإضافة إلى إصدار كتاب عن الراحل الكبير ضمن فعالياته هذا العام، يتضمن مسيرته الحافلة فى المجال .
إنها بحق خسارة فادحة للساحة الثقافية المصرية؛ فى فقدان العلامة صاحب العطاءات فى شتى فروع المعرفة والعلم والثقافة الجادة و العديد من أشكال الكتابة الأدبية والنقدية والفكرية والمسرحية، ممسكًا بحنكته بدفة الإدارة والريادة والعمادة للعديد من المعاهد الفنية، والهيئة العامة لقصور الثقافة بطول خريطة الوطن المصرى؛ وصولاً إلى رئاسته لأكاديمية الفنون، وهى الصرح العملاق فى الشرق الأوسط الذى يتولى التأثير والريادة للساحة الثقافية العربية بوجه عام، واضعًا حجر الأساس لجمع وتوثيق كل المأثورات فى التراثين الشعبى المصرى والعربى حفاظًا عليه من الضياع، وليكون للأجيال الحالية والقادمة مصدر مهم لتاريخ الحياة الثقافية فى كل الأحقاب الزمنية.
ننتظر أن تمتد يد الاحتفاء بمسيرة الدكتور فوزى فهمى بأن تضاء خشبة المسرح بإعادة عرض أعماله برؤى جديدة تكريما له، وأن يتدفق الاهتمام به لما بعد انفعالات لحظة الفراق لتتفتق عن استيلاد أفكار جديدة لتكريم هذا العالم حتى لا يطويه النسيان ونعطى للأجيال الصاعدة درسًا فى الوفاء تجاه من علمنا حرفا.. بل أبجدية كاملة مكتملة!
أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب