الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
يوسف إدريس ومعركة الفن الهابط!

يوسف إدريس ومعركة الفن الهابط!

من حق أى مواطن أن يعتقد أنه فنان وأن «يفنن وأن يحاول أن يجد لفنه جمهورا».



هكذا كتب د.يوسف إدريس محاولًا تصحيح هذا المناخ الفنى العامر بالتفاهات والأعمال والمسلوقة فى مقاله الممتع.. نحن فى حاجة إلى كمادات وكان يقصد بها الحركة النقدية التى تصحح وتصوب كل ما هو فن تافه ويقول: إن هذه الإفرازات الاجتماعية التى تخرج متنكرة على هيئة «فن» يعود المجتمع ويبتلعها بحكم حاجته إلى استهلاك الفن، وكأن المريض يعود لابتلاع طفح المرضى!

لهذا كان لابد للحركة النقدية أن تنشط نشاطا حادا متزايدا كى تلعب دور الرقابة الصحية الفنية، كى تميز «الفن» من «اللا فن» كى تغربل وتدقق وتشيد بالجيد وتحيل النفاية إلى أماكن حرق القمامة!

ولكن الحركة النقدية هى الأخرى وكأنما أصيبت بالعدوى، فقد امتد إدعاء التأليف إلى إدعاء النقد، حتى أصبحنا كلنا نؤلف وننقد ونتعصب ونتظاهر ونصرخ ونتشنج، وندوس القيم الفنية بأرجل الحاقدين أو أرجل المجاملين والمطيباتية، وكله عند العرب صابون، كله «شرب» ولا مانع أن تصبح الشورب إسهالا وكوليرا ووباء يطيح بكل شيء، ماذا يهم ما دمت سأجامل بنقدى صديقا أو سأهاجم عدوا أو شخصا ثقيل الدم؟ وهل أنا كاتب قصة لأحرص على القصة أو كاتب مسرح لأفكر فى مستقبل المسرح أو مسئول عن صناعة السينما أو الإذاعة أو التليفزيون لأحرص على مستقبل هذه الأدوات؟!

والنتيجة أننا حققنا نظرية الكم فى العبقرية، فأصبح عندنا ألف كاتب عبقرى، وألف مخرج عبقرى، وألف ممثل عبقرى، وألف ناقد عبقرى ومليون كاتب مخرج ممثل ناقد صحفى إذاعى تليفزيونى سينما عبقرى!

أيها السادة إننا فى حالة حمى شديدة وصلت إلى المراكز العليا فى عقولنا الفنية، ولم يسلم منها حتى كبار النقاد ولم نعد نستطيع فى حالة الهلوسة تلك أن نميز الخبيث من الطيب أو نقول كلمة الحق! وإذا كانت هذه الحمى مصحوبة بتضخم فى حركتنا الفنية والأدبية فهو تضخم كالأورام السرطانية بلا هدف! ولا يمكن أن يكون شيئا نافعا لجسد أمتنا!

بالعكس إنه ينخر فى وجدان شعبنا ويمتص رحيقه، كل ما نطلبه الآن أن نضع فوق رءوسنا جميعا كمادات من الثلج البادر، كميات هائلة من الثلج، ثلج الحقيقة والصدق، ثلج الضمير، تخفض من هذا الغليان وتوقف التخريب كى نعود نرى قيمنا الفنية المهدرة، كى نعود نحس بالمسئولية، كى نندفع فى إزجاء آيات إشارة أو حب الهجوم دون واذع أو خجل من النفس، إننا فى حاجة إلى رجل عاقل واحد فى وسط هذا المولد كله، أو إلى مجموعة من الرجال العاقلين تعيد حركتنا الفنية والأدبية الى صوابها، فلا تغرنا الضجة الفنية الشديدة من حولنا فإنها ضجة بائعين جائلين، وكلاكسات نفاق وخناقات كخناقات نسوق سببها دائمًا الخلاف حول السعر المصلحة!

أما التقدم الحقيقى فلا وجود له بالمرة فى المسرح نحن ما زلنا نحيا على الثورة المسرحية الأولى التى حدثت فى عقاب العدوان ـ الثلاثى ـ وفى السينما نحن مازلنا فى عصر «حسن الإمام» وفى التليفزيون ما زلنا عند تمثيليات الإذاعة، وفى الإذاعة ما زلنا عند حواديت الشاطر حسن، وفى التمثيل ما زلنا عند مدرسة «زكى طليمات» وفى الإخراج المسرحى لم نقم إلا ببقع تحصينات تكتيكية، ولكننا بعد لم نصل إلى أسلوب خاص بنا، وبشكل عام نحن قد تركنا جانبا من مرحلة الخلق الفنى وانتبهنا جيدا لمرحلة المتاجرة فى الفن، أما النقد الفنى فإنى أترك النقاد لضمائرهم.

وينهى د.يوسف إدريس صرخته قائلًا: إنى أعرف تماما أن كلمتى هذه ستثير ثائرة المستفيدين الكثيرين من هذه الفوضى المحمومة، ولكنى أعرف أيضا أنها ستكون بردا وسلاما على قلوب الفنانين الحقيقيين الحريصين على انقاذ الفن من حمى الفن، وانقاذ النقد من هلوسة النقد، وإعادة الوعى الى ضميرنا الثقافى الغائب، إذ الوضع جد خطير ففى مثل ذلك المناخ الموبوء المحموم لا يمكن أن يظهر عمل فنى حقيقى، أو إن ظهر حتما سيضيع فى ضجة الكلاكسات والأبواق والصراخ والعويل القائمة الآن على قدم وساق.