الثلاثاء 23 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
رائحة حصاد القمح

رائحة حصاد القمح

فى مثل هذا التوقيت من كل عام، تهل علينا روائح الخير عندما يبدأ الفلاحون عملية حصاد ودريس القمح.. الذكريات القديمة الجميلة ما زالت حاضرة فى العقول والأذهان، نستمد منها نسمات الماضى وذكرياته الجميلة التى شكلت تضاريس الزمن الطيب وناسه الكرماء فى كل القرى والنجوع والعزب فى الريف المصرى. 



فى بداية الثمانينيات، من حسن حظى وحظ هذا الجيل الذى كان يبلغ من العمر فى هذا التوقيت الزمنى عشر سنوات، كنا «أطفالًا» صغارًا نرتدى الجلابية الكستور وصندل ماركة «باتا» بلون أزرق جذاب و«ابزيم» من معدن الحديد المطلى بلون يشبه الفضة الذى إذا سقط عليه شعاع الشمس ينير منطقة الظل ونحن فى الطريق صباحًا.. كنا نلعب ونجرى فى حقول البرسيم الأخضر نجمع  أعواد «السريس» و«الجعضيض» وأوراق نبات «عنب الديب» ولا يمنع بعد زراعة الذرة محل القمح فى شهر يوليو أن نقطف أعواد نبات «الرجلة» بعد خف الذرة من الغيط، ويتم طبخ هذا النبات الذى انقرض فى كثير من الحقول ولا يعرفه أو تسمع عنه الأجيال الجديدة.. الرجلة كانت تطبخ مثل «الخبيزة» ويوضع عليها بعض الفول المجروش وتؤكل بالعيش المعجون من الذرة الخالصة، هذه الطبخة كانت ولا تزال أفضل طبخة على مستوى العالم تحتوى على أعلى نسبة من الحديد والمعادن فى طعام وجد على وجه الأرض.. كل هذه النباتات التى ذكرتها قد انتهت إلى غير رجعة من الحقول المصرية بفعل التمدن والحداثة الكاذبة والتى قضت على أفضل المزروعات الربانية المكافحة لأمراض العصر القاتلة فى هذا الزمان.. الفلاح الغلبان انضحك عليه فقام بشراء المبيدات المسرطنة القادمة والمصنعة فى دول مجاورة، نجحت فى نشر منتجاتها فى الدول العربية وخاصة مصر.. وعلى نقيض آخر اتجهت بعض الدول فى الغرب وفى شرق آسيا لزراعة بعض هذه النباتات المنقرضة من حقولنا وأصبحت تصنع وتنتج منها بعض الأدوية المقاومة للأمراض البشرية الفتاكة الآن  ويتم بيعها بأسعار خيالية لا يستطيع شراؤها غير الأغنياء فى العالم. 

فى مثل هذا الشهر بداية الثمانينيات كنا نستعد لموسم حصاد القمح من الغيط، نستيقظ قبل أذان الفجر، نصلى الفرض ويخرج الجميع كل منا يحمل فى يديه «الشرشرة» أو المنجل لنحصد أعواد وسنابل الذهب الأصفر، وبعد الانتهاء نترك المحصول لمدة أسبوع فى الشمس حتى تصبح أعواد القمح يابسة تمامًا، بعدها نبدأ فى تجميع المحصول حتى يصبح كومة كبيرة وتلًا من الخير يصل ارتفاعه لعدة أمتار ثم نبدأ فى اليوم الثانى بعد الفجر مباشرة تحضير «الجرن» وإصلاح «النورج» وضبط وتزييت عجلاته الحديدية الحادة ثم تشده الأبقار أو الفحول القوية لتبدأ عملية درس القمح وفصل الحبوب عن أعوادها وسنابلها اليابسة ليخرج «التبن».. وبعد عملية شاقة نجمع المحصول ونبيع منه ما نشاء والباقى يخزن فوق سطح الدار داخل الصوامع المصنعة من الطوب اللبن والطمى.. وكان الفلاح ينعم بالخير الوفير طوال العام يأكل من خبز  زراعته.. يتمتع بصحة جيدة ولا يحتاج إلى شىء  طالما أن البيت مستور بخزين القمح. 

اليوم انتهت الذكريات الجميلة فى السنوات الماضية، وأصبحت عملية الحصاد آخر راحة، تحصد وتدرس وحتى تبيع المحصول فى بضع ساعات قليلة ! صحيح أن الموضوع أصبح غاية فى الراحة ولكن انتزعت البركة وضاعت الصحة ولم يُعد لفرحة الحصاد معنى أو رائحة. 

 السعادة كانت فى وجوه الطيبين أيام زمان، أصحاب القلوب البيضاء، التى لم تكن تعرف غير الخير وحب الخير للناس، فكانت الحياة أفضل وأجمل من هذا التوقيت فى موسم الحصاد من كل عام.. ليس كل ما نتمناه  ندركه، وليست السعادة فى كثرة الأموال والفوز بالمناصب، لكن السعادة الحقيقية فى الرضا وراحة البال ومعرفة الحلال والحرام وانتزاع حُب الدنيا من القلوب.

لا تعيبوا الزمان ولا تسألوا عن تغير العصر وأهله، حتى المناخ الذى لم يعد له موسم محدد صيفًا أو شتاءً.. لكن اسألوا أنفسكم لماذا تغيرنا ولم نعد من أهل الزمن الجميل؟!.  تحيا مصر.