السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ضمن فعاليات المهرجان القومى للمسرح

«المطبخ».. الوعى بممارسة الاستغلال والعنف ضد المرأة فى عرض مسرحى استثنائى

بعيدًا عن معركة التنافس والجوائز الدائرة على الدوام ضمن فعاليات المهرجان القومى للمسرح، وأزمة التوقعات التى يشهدها فى كل دوراته، يحقق المهرجان على أرض الواقع وظيفة أهم وأعمق وأبعد من جوائزه، باكتشاف حساسيات فنية جديدة من شباب المسرحيين، حساسيات تبدع فى الظل، وتنجح فى صمت، يفاجئ هؤلاء الشباب المبدعون عادة جمهور المهرجان، بإبداع جديد ومستوى آخر من الرؤية والنظرة الواعية بالحداثة فى عالم المسرح، سواء على مستوى الكتابة الفنية أو الإخراج، حيث جاءت ردود الأفعال على عروض الشباب هذا العام إيجابية للغاية ويرشح البعض معظمهم للدخول فى منافسة شرسة مع المحترفين.



كان لى حظ مشاهدة أحد هذه العروض.. «المطبخ» للمخرج الشاب محمد عادل ظهرت لديه تلك الحساسية الفنية بعمق وقوة، قدم فيه عادل حالة القهر الإنسانى الذى تتعرض له المرأة فى مجتمع أبوى ذكورى لا يعترف إلا بسلطة الأب فى بداية حياتها ثم سلطة الزوج بعد خروجها من منزل ابيها، سلطة ذكورية كاملة قاهرة وضاغطة عليها حتى كادت تمحو معها ملامحها الشكلية، فى منزل صغير لزوج وزوجة يبدو على علاقتهما الفتور هى تنشغل بكتابة يومياتها تصف مشاعرها وخذلانها، وهو يحاول إخضاعها والسيطرة عليها بكل الطرق، يبدو عليها كراهية عشرته، لكنها لا تجرؤ على البوح بهذه الكراهية تتعايش مع هذه العلاقة المريضة الفاترة حتى يأذن الله لها بالهرب.

قدم عادل هذه العلاقة الشائكة بين رجل وامراة جمعهما الاحتياج لا للحب، هو يحتاج لامرأة لممارسة احتياجاته الجنسية ثم قضاء احتياجاته اليومية من مأكل ومشرب، تجلس لانتظاره وترضخ لرغباته كارهة، دون أن يبدو عليها التأفف، وإذا رفضت الخضوع لتلك الرغبة وشعر بهروبها منه قرر إثارة غيرتها الأنثوية، يصل به الأمر إلى أن يأتى بعاهرة فى المنزل لممارسة هذه العلاقة فى وجودها حتى يحرك مشاعرها تجاهه، عاشت هذه المرأة أو الزوجة مسلوبة الحرية والإرادة خشية أن تعود إلى منزل أبيها الذى تواجه فيه عنفا جسديا وحالة أخرى من القهر الإنساني، بين تعدد أشكال وانواع القهر، يسرد عادل قصة امرأتين الأولى الزوجة والثانية العاهرة التى تدهش من موقف الزوجة الفاتر تجاه ممارستها الفاحشة مع زوجها، ومع الوقت تصبح الاثنتان صديقتين، جمعهما القهر النفسى والوجدانى والاستغلال الجسدي، كل واحدة منهما تم استغلالها وتعنيفها بشكل مختلف، اختلفت القصص واشكال القهر لكن النتيجة واحدة حتى تسعى كلاهما للهروب والنجاة من هذا الحظ العسر.

   امتلك محمد عادل كرجل حساسية إنسانية وفنية رفعية فى تناول قضية تخص المرأة وممارسة أشكال الاستغلال والعنف الجسدى ضدها ربما لم تمتلك بعض الكتابات من النساء نفس القدر من الوعى والنضج التى امتلاكها هذا المؤلف الشاب، عادة ما يتعرض شباب المؤلفين لنقد لاذع يتعلق بخلو الساحة من مؤلفين جدد أو أن هؤلاء الشباب قد لا تكتمل ابداعاتهم فى التأليف لنقص خبرة أو لعدم اكتمال واختمار الأفكار فى أذهانهم، أو لمعالجة البعض أحيانا لقضايا المرأة وخاصة من الكاتبات النساء بسذاجة وسطحية ومراهقة فكرية كبيرة، بينما جاء محمد عادل ليبدل القناعات ويعيد الثقة من جديد فى هذا الجيل الشاب بحقل التأليف، دخل بنا فى عرض المطبخ إلى عالم المرأة من صلب تواجدها فى المنزل فهذا المكان عادة ما يشكل صناعة الحياة داخل البيت، فى هذا المصنع الصغير تختبئ هذه الزوجة المغلوبة على أمرها من عنف وقهر واحتياجات زوجها تصنع له طعاما ربما لا تحبه لكنها تضطر لصناعته من أجله حتى ترضيه بجميع الطرق.

على خشبة مسرح الطليعة وعلى أريكة خشبية صلبة ربما أشارت لجفاء العلاقة بينهما دارت أحداث العرض المسرحى الذى تختبئ فيه هذه الزوجة تحت الأريكة عندما يأتى الرجل وعشيقته إلى المنزل أو تجلس متوارية فى جانب منها عندما يجمعهما الوقت فى حالة من السكون والخوف والتراجع سواء فى جلستها معه أو فى هروبها منه، ثم تجمع نفس الأريكة علاقة صداقة وحميمية بين هذه الزوجة والعاهرة التى تفطن إلى حالة القهر الكبرى التى تتعرض له تلك المرأة فتنسجمان معا فى صداقة توحى لكل منهما بضرورة التخلص من هذه الحالة الشقية التى تعيشها كلتاهما من قمع واستغلال وربما أحيانا عنف وتوبيخ، بشاعرية شديدة فى صورة مسرحية ناعمة تناول عادل هذه العلاقات الشائكة والمؤلمة كان لديه وعى كبير بإستخدام الإضاءة فى لحظات شديدة الحساسية رسم بالنور مع مصمم الإضاءة أبوبكر الشريف حالة الكآبة والهجر والألم التى يعانى منها هذا المنزل البأس الموحش، بدا فى تفاصيل المسرح الفارغ من كل شيء إلا هذه الأريكة الساكنة غير المتحركة مثل علاقتهما الزوجية تماما، تتبدل الإضاءة عليها وكأنك تدخل منزلا مهجورا لا يسكنه أحد سوى شبح علاقة زوجية غير قائمة.

استخدم المخرج تكنيكا مسرحيا أقرب للسرد السينمائى بالإضاءة وحركة الممثلين الأقرب للحميمية فى علاقات غير حميمية على الإطلاق، بجانب أدائهم التمثيلى الرفيع أوحى العمل بدفء السينما أكثر من المسرح فى حالات عرضه لأزمات شخصياته النفسية والإنسانية تناول علاقة الرجل والمرأة بقدر ما تحمله من جفاء واستخدام نفسى وجسدى فى سلاسة ونعومة رغم قسوة وعنف ما يتناوله النص من قضية إنسانية شديدة الحساسية، قدمت لبنى المنسى دور الزوجة المقهورة المغلوبة على أمرها ببساطة المحترفين فى ردود أفعالها الباردة الباهتة المتعايشة مع هذا القهر بلا شكوى أو مقاومة، هى إمرأة مستسلمة خاضعة ومستكينة تسعى للقيام بدور الزوجة على أكمل وجه حتى لا يعنفها زوجها أو يرسلها إلى منزل أبيها الذى هربت منه إليه، استعانت بهذا القهر الزوجى على السلطة الأبوية، بدت تلك المرأة فى حلقة مفرغة من القهر والتسلط تدور حول نفسها على هذه الأريكة الخشبية جالسة أو واقفة أو متكئة عليها أو متوارية فى ظلها وبالتالى كان أداؤها دائم التراجع والخضوع تتوارى من زوجها وتنكمش بالأريكة حتى لا يمارس عنفه ضدها كانت لبنى اختيار موفق بملاحمها الهادئة وأدائها الساكن، منح لهذه الشخصية عمق ما تعانى منه داخليا من هذه العلاقة المريضة وكل ما أراد المؤلف أن يرويه من خلال ملامحها الباهتة وجسدها الضئيل، أكسبت المتلقى حالة من التعاطف والشفقة عليها بذكاء أدائها الهادئ البسيط، ثم تأتى ليلة مجدى بشخصية أكثر ظهورا يبدو عليها القوة والجرأة أكثر من هذه الزوجة الخاضعة فهى فتاة ليل متمرسة بين سخريتها وتعجبها من موقف هذه الزوجة الغريب، كان لليلة حضور آخذ ومختلف مهارة كبيرة أدت بها شخصية هذه العاهرة التى تبدو قوية وعنيفة بينما هى إمرأة هشة من الداخل يتم استغلالها جسديا وتتعرض للعنف من قبل الرجال، بجانب نظرة المجتمع الدونية لها فهى تركيبة نفسية أخرى انضمت لهذه الزوجة المقهورة، لعبت كل منهما دور المرأة المقهورة من مستوى آخر يناسب طبيعة وتركيبة وبيئة كل شخصية تعرضت لنفس نوع القهر، أما أحمد شكرى الذى لعب دور الزوج المستغل أو هو رمز الذكورة فى العرض بكل ما تحمله من طبيعة جسدية ونفسية كان شديد الوعى والتركيز فى لعب وأداء شخصية هذا الرجل العنيف دون صراخ او افتعال بل لعبه من داخل هذا الرجل بلا أداء مسرحى مبالغ فيه كان شكرى أقرب لممثلى السينما فى تقديم هذا العنف والإستهزاء بهذه المرأة وتلك من خلال أسلوبه وسلوكه المنفر مع كل منهما، ثم أحمد عادل فى دور الشقيق الذى بدت معه حالة الراحة والانطلاق عندما زار أخته وأخذا يتحدثان عن ذكريات كل منهما أيام الطفولة.

 «المطبخ» عمل مسرحى استثنائى فى تناول قضية العنف ضد المرأة حاول المؤلف هنا الدخول إلى أعماق نفس هذه المرأة بعيدا عن تناولها بسذاجة المبتدئين كان محمد عادل أقرب إلى المحترفين فى كتابة وإخراج هذا العرض، امتلك حرفة تقديم قضية كبرى بكتابة عميقة مكثفة ومتماسكة دراميا، العرض ديكور سلمى أبوالفضل تأليف وإخراج محمد عادل.