قوس الربابة الذى رحل.. زين نصار
تأبى رياح الخريف أن ترحل عن سماء الوطن ؛ دون أن تأخذ فى طريقها أبهى الوريقات التى ترعرعت وأينعت وازدهرت وفاح عبيرها فوق أفنان شجرة الإبداع الفنى بشكلٍ عام؛ والموسيقى بشكلٍ أشد خصوصية!
والآن ـ ونحن يعتصرنا الحزن والألم ــ نجد أن الرياح أخذت فى طريقها جيلًا كاملًا من عمالقة الموسيقيين ورواد مؤرخى نشأة الموسيقى فى مصر والوطن العربى؛ بداية من مؤرخ الموسيقى العربية الشهير الراحل «فرج العنترى» الذى دافع عن التراث الموسيقى العربى وكل محاولات السطو عليه من قبل الصهيونية، لا سيما فيما يخص موسيقى بدو سيناء؛ وكتب مطولًا عن أساليب جمع هذا التراث ومخاطر نسبته للتراث اليهودى. ولم تتوقف ــ فى نهر الموسيقى المصرية والعربية ــ موجات المدافعين عن تراثنا الموسيقى؛ فكان على الساحة المؤرخ العملاق «محمود كامل» الذى عرفه الجمهور عن طريق البرنامج الإذاعى (ألحان زمان)؛ ورحل ليترك خلفه كتيبة من تلاميذه الذين ساروا على الدرب نفسه فى التأريخ والتوثيق للموسيقى المصرية والعربية ؛ وأخص بالذكر منهم الراحل الجليل الموسيقار/سيف الدولة حمدان؛ الذى تتلمذ على يديه ما نحن بصدد الحديث عنه وهو آخر الراحلين مع رياح سبتمبر من هذا العام عن ثمانين عامًا (2022/ 1942)؛ وهوالمؤرخ العملاق/ زين الدين نصار؛ الذى حصل على ليسانس التربية الموسيقية بتقدير امتياز، عام 1965 من المعهد العالى للتربية الموسيقية بالقاهرة، كما حصل على دبلوم الدراسات العليا فى النقد الفنى، ثم ماجستير فى النقد الفنى تخصص موسيقى عام 1980، ودكتوراه فى الفنون تخصص «النقد الموسيقى» عام 1986، من المعهد العالى للنقد الفنى بأكاديمية الفنون.
وقد شغل منصب أول رئيس لقسم النقد الموسيقى بالمعهد العالى للنقد الفنى لمدة سبعة عشر عاما متواصلة «1992 –2009»، كما شغل منصب وكيل المعهد؛ ومن أعماله الشهيرة: «أنت حر»، و.. «يا مسافر وحدك».
كما نشير إلى أن له عدة كتب فى مجال «الموسيقى والفنون»، وتقلد العديد من المناصب فى المعاهد والجامعات حيث درس فى المعهد العالى للنقد الفنى، المعهد العالى للموسيقى العربية، وكذلك المعهد العالى للسينما، وهو الذى أعدَّ وقدم برنامجًا عن الموسيقى، وكان جُل اهتمامه دراسة ومعرفة المعلومات عن الموسيقى فى العصور القديمة.
ومن أجل كل هذا الثراء المعرفى والثقافى فى عالم الموسيقى؛ فقد كرمته الدولة أكثر من مرة، حيث حصل على عدد كبير من الجوائز والتكريمات طوال مسيرته المهنية؛ ناهيك عن ترشحه لجائزة الدولة التقديرية مرتين ، مرة فى عام 2003 ومرة فى عام 2009.
لقد كان الدكتور زين نصار رحمه الله يتمتع بكل صفات الإنسان ؛ ويعيش بين تلاميذه بكل تواضع العالم خفيف الظل رقيق المشاعر؛ لايبخل على أحدٍ من مريديه وتلاميذه بعلمه الغزير وأسرار عالم الموسيقى التى عاش لها ومن أجلها؛ لأنه يعلم من صميم روحه: أن الموسيقى غذاء الروح والعقل والوجدان؛ وبدونها تكون مسيرة الحياة كمن يمشى فى الصحراء المجدبة التى لازرع فيها ولا ماء.. ولا ظلال!.. فلابد أن أنعيه بكل شغاف القلب وأقول: لقد فقدنا «قوس الربابة» الذى بدونه تبكى «الأوتار» و كان يؤرخ لكل منمنمات دندناتها؛ ويرصد ويوثِّق كل جديد فى إبداعاتها لتثرى الحياة بكل البهجة والفرح؛ ولتحفظ للتاريخ ذكرى الرجال الذين عشقوا تراب الوطن؛ وباتوا ـ رغم رحيلهم ـ فرعًا أصيلًا وثابتًا من شجرة الإبداع الفنى التى تداعبها ـ بين الحين والحين ـ رياح الخريف؛ وتلك هى سُنَّة الحياة ومفارقاتها منذ بدء الخليقة.
لقد كان الراحل الكريم صاحب الرأى الصادق والشجاع فى مواجهة موجات أغانى «المهرجانات» أو«التهريجات» ـ على حد قوله ـ: «... إن الغناء غير الرسمى موجود فى كل وقت وزمان وكان موجودًا فى وقت الاحتلال الإنجليزى، لكن نسبته لم تتعد دائما الـ١٪، لكنه زاد حاليًا فى شكل أغانى المهرجانات وأصبحت خطرا على المجتمع لاستخدامهم ألفاظًا سوقية، كما أن من بينهم أصواتًا لا تصلح للغناء؛ لأن الفن مهمته نشر الجمال وهذ النوع يهدم المجتمع من الداخل لأنه يتسرب لنفوس الأطفال والشباب وتركهم يضر المجتمع، وأضاف: «... إذا أردنا إصلاح ما حدث فى السنوات الأخيرة يجب منع هؤلاء، لأنهم أصبحوا وجهة للفن الغنائى المصرى العريق الذى تخطى ١٥٠ عاما من الفن المحترم...»؛ و«... أن تلك الأغانى لها تأثير سلبى شديد على الناس فهى سرطان غنائى يسرى فى جسد المجتمع...».
رحم الله هذا الأستاذ العملاق ؛الذى غادرنا إلى عالم الخلود؛ لينضم إلى أعز أساتذته وأقربهم إلى قلبه على حد تعبيره فى تعزيته لى حين رحل والدى؛ لروحهما السلام فى عليين،ويقينا سيظل فى ذاكرة الوطن ماحيينا مثلما ظل كل من بذل نفسه ووجدانه وروحه ولم يكن بها ضنين على أجيال أرتشفت من نهر عطاء عظماء هذا البلد على مر السنوات؛ لأن «مصر» هى قاطرة التنوير فى كل فروع الفنون والآداب والموسيقى..
وستظل مصر المحروسة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
رئيس قسم الإنتاج الإبداعى الأسبق بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر