الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الإنسان حيوان غنائى!

الإنسان حيوان غنائى!

من أجمل وأعمق مقالات الفيلسوف الساخر الأستاذ الكبير «أحمد رجب» مقالاته الممتعة والساخرة التى كان يتناول فيها مظاهر حياتنا الفنية من غناء وموسيقى وتمثيل ومسلسلات.



لقد مضى على كتابة هذه المقالات أكثر من نصف قرن لكنها من فرط صدقها وصراحتها تحس أنها مكتوبة هذه الأيام، وتناقش نفس الموضوعات التى يزيد فيها الهبد والهرى والهمبكة من دهماء الفن والغناء!

«كوز الغرام» واحد من هذه المقالات المنشور فى كتابه البديع «أى كلام» - صدر عام 1990 - وفيه يقول:

«لا شك أن الإنسان حيوان غنائى ينزع إلى سماع الغناء ويميل أكثر إلى ممارسته، فالغناء نوع من النرجسية إذ كما يحب الإنسان رؤية صورته فى المرآة، يهوى أيضا سماع صوته مترنما، ولهذا نلاحظ أن الغدد الغنائية عند الإنسان تزداد نشاطا فى الحمام، وفى الحمام وغير الحمام الكل يغنى، البعض يغنى فى الخفاء أحيانا حفظا للوقار أو خجلا من أن صوته عورة ينبغى إخفاؤها، لكن هناك فئة ضعفت عندهم مراكز الخجل فأصبحوا يغنون بلا حياء وهم «بنو كاسيت» من التتار الذين أشعلوا النار فى الحضارة الموسيقية والغنائية!

وهناك من يتهم الرقابة على المصنفات الفنية، ولست أدرى ما حيلة الرقابة فى أغنية تقول «لبست له التوب البفتة وعزمته على أكلة كفتة»، فهذا كلام فى رأى الرقابة لا يمس النظام العام أو الأداب، لأن لبس الثوب البفتة لا يعتبر خطيئة، ولا أكل الكفتة يعتبر رذيلة! وإذا ما غنى مطرب «إدينى بنطة لحام كوز المحبة اتخرم» والبنطة هى قطعة الحديد التى يتركها السباك تتوهج فى اللهب ليلحم بها الثقوب والمعادن، وبناء عليه فالبنطة ليست كلمة بذيئة والكوز ليس كلمة نابية، وفى عصر الفن «التتارى» يرتقى خيال الشاعر التتارى إلى هذه الأفاق الجديدة فيشبه غرامه بالمحبوب بسائل فى الكوز، ويشبه الجفوة مع الحبيب بثقب فى هذا الكوز يتسرب منه الغرام، فيطلب من سباك الغرام بنطة لحام لسد ثقب الكوز: إدينى بنطة لحام كوز المحبة اتخرم!

وفى كل عصر توجد الأغانى الهابطة إلى جوار الأغانى الرفيعة، ففى الزمان الذى قال فيه أمير الشعراء «فى الليل لما خلي» وقال «رامى»: من كتر شوقى سبقت عمري، وقال بيرم: النسمة أحسبها خطاك! وقال مأمون الشناوى، لو كنت أقدر أحب تانى أحبك أنت، عندما قال هؤلاء العمالقة هذه المعانى فى رومنسياتهم الشهيرة كان هناك من يقول: يا شبشب الهنا يا ريتنى كنت أنا، ومن يقول بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة، ومن يقول: إنسى اللى فات وتعالى بات!!

لكن هذه الأغانى الهابطة لم تكن ذات تأثير وأغانى العمالقة بجوارها ترتفع بالذوق وتثرى الوجدان، غير أن زماننا خلا من أغانى العمالقة فانفرد التتار بالساحة وسادت أغانى كوز الغرام المخروم!

ولا يمكن القول بإن على الإذاعة أن ترتفع بالذوق العام، الحقيقة أن الإذاعة - فى العالم كله - انتهت كقوة مؤثرة فى الذوق العام، والسبب عصر الكاسيت، إذا أصبح الإنسان العصرى يمتلك إذاعة شخصية، تذيع له ما يشاء فى البيت والسيارة وبهذه الإذاعات الملاكى حقق مطرب الكوز شهرة داوية دون أن يقف أمام ميكروفون الإذاعة مرة واحدة!

ويكمل الأستاذ: أحمد رجب: «ولن أنسى تلك الليلة التى اضطررت فيها إلى ركوب ميكروباص أجرة، وكان السائق يردد مع الصوت القبيح المنبعث من الكاسيت: «أنا روميو حبيبك يا جوليا حبينى يا بنت الفاصوليا!!

ولما أبديت دهشتى من كلمات الأغنية واستفسرت عن اسم الشركة التى أنتجتها واسم «الجحش» الذى يغنيها، اعتبرنى الركاب إنسانا شاذا لأننى أبدى قرفا واضحا، ومع ذلك توقف السائق وسحب أغنية «جوليا بنت الفاصوليا من الكاسيت، ووضع أغنية أخرى فهمت منها أننى يجب أن أغادر الميكروباص فورًا، وانبعث من الكاسيت صوت غوغائى يقول: «أيامنا لا ممكن حتعود، اتفضل من غير مطرود».