الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
امرأة.. فى شباك الوصاية!

امرأة.. فى شباك الوصاية!

يتأسس نجاح العمل الفنى على اختيار الفكرة؛ ثم أسلوب التعبير عنها ومراحل تنفيذها بدءا من كتابة السيناريو والحوار ثم الإخراج والتمثيل؛ يتدرج هذا البناء ليصبح كيانا كاملا ثم تأتى مرحلة التلقى واستقبال الجمهور؛ وعلى قدر قوة البناء وصلابته يترسخ فى وجدان وأذهان المشاهدين ليبقى عملا صاحب بصمة وأثرا لا يمحى من ذاكرة المجتمع والدراما؛ هذا ما فعلته منى زكى مع المخرج محمد شاكر خضير فى «تحت الوصاية».



تمكنت منى زكى مع المؤلفين خالد وشيرين دياب والمخرج محمد شاكر خضير من التقاط فكرة لامعة؛ قضية من قلب المجتمع ربما لم تتطرق لها الدراما كثيرًا ولم يشغل لها المجتمع بالًا إلا بعد عرض أحداث المسلسل؛ قد لا يلفت انتباهنا استمرار العمل بهذا القانون المجحف الظالم للأم فى أحقيتها بالحصول على الوصاية على أموال أبنائها وإدراة شئون حياتهم بالأوراق الرسمية عقب وفاة الأب؛ وكأنها ليست شخصًا راشدًا أو مكتمل الأهلية له حق التصرف فى شئون الأبناء المالية والحياتية؛ على رغم ما وصلت إليه المرأة من مناصب عليا وتواجد ملحوظ ونجاح فى معارك على مدار عقود إلا أنها ما زالت فى نظر القانون «ناقصة عقل ودين»..تعامل معاملة فاقد الأهلية؛ لم يكتف «تحت الوصاية» باختيار موضوع  أو فكرة خلقت كيانا مستقلا بذاته عن شكل الدراما التقليدية؛ لكنه جاء كاشفا للوعى الجمعى ينبهنا هذا العمل الفنى الاستثنائى إلى ما بقى ومازال راسخا فى وعى الرجل بالمرأة؛ الذى لم يتخلص من نظرته المختزلة فى نوعها الجنسى فهى وسيلة للمتعة أو الإنجاب.. ما زال فى عمق وجدان قطاع من الرجال أن المرأة خلقت لتحقيق غاية الرجل منها فى هذه الحياة؛ وبالتالى لم تقتصر قضية «تحت الوصاية» على مجرد أم حرمت من الوصاية على أبنائها بعد أن توفى عنها زوجها؛ بينما تخوض هذه الأم معركة كبرى مع العائلة ومع ذاتها ومع المجتمع لإثبات أحقيتها فى ممارسة الحياة بشكل طبيعى كإنسانة وليس لمجرد أنها امرأة.

أصبحت حنان أو منى زكى تحت وصاية مجتمع بالكامل؛ هذا المجتمع يحقرها لأنها امرأة قررت خوض عالم الرجال؛ لا تتمكن من اقتحام عالم زوجها المتوفى بسهولة إلا بعد صولات وجولات ومعارك وإيجاد من يعينها على هذا الاقتحام.. «عم ربيع»؛ غرقت فى بحر هذه الوصاية وأغرقتنا معها؛ نتابع حياة هذه المرأة المقتحمة غير المبالية بنظرة المجتمع؛ ونرى ما تتعرض له من استضعاف وهوان؛ نقطة الضعف الأولى أنها أنثى وبالتالى تتفتح المعارك من هذا الضعف؛ يستهزأ بها الصيادون ويرفضون العمل معها لأن الرجال لا يتقبلون أن تكون الريس امرأة؛ وبعد أن وجدت من تقبلها على مضض  ازداد الوضع سوءا بالمشادات الدائمة وعدم تقبل إدارتها لشئون المركب بسهولة كما يسعى أحدهم للتحرش بها ثم مساوماتها على الأمان!

طرق المخرج عالما جديدا؛ تمكن بعمق وجدارة أن يأخذ الجمهور فى السباحة معه إلى اكتشاف عالم البحر والصيادين أدخلنا فى بيئته الأصلية وليس بمجرد الإيحاء أو زخرفته وتقديمه بشىء من التعالى على هذا العالم الغنى بالحياة والمعقد بالتفاصيل عصية الفهم والإدراك على من هم خارجه؛ مجتمع له قوانينه الخاصة؛ من هذه الخصوصية انطلق بنا خضير وفريق عمله بمراكب الصيد والبحر وتجار السمك وبلا جمل رنانة أو حوارات خطابية ودروس فى فقه الميراث؛ عبر ببلاغة وأشتبك وشبكنا معه فى شباك الوصاية بالصورة والحالة وتفاصيل الأماكن الطبيعية من عراك البحر والصيادين غرقت هذه الوصاية بين شباك الميناء التى سردت قضيتها بلا عبارات جوفاء.

دائمًا ما يلقى الممثلون مديحًا حول مستويات الأداء بالفروق الفردية فى اتقان فن التشخيص والتجسيد؛ بينما فى «تحت الوصاية» لم يتقن الممثلون فنون التجسيد بل تجاوزوه بالمعايشة الحقيقية حتى تورط معهم المشاهد وظن أن هذا عالمهم اليومى؛ يسرحون بالمركب ويسرح معهم الجمهور فى رحلة الصيد يصطادون السمك وخيال الجماهير بقمة المبالغة فى اتقان التفاصيل؛ عاش فى هموم ووجدان هذه الشخصيات التى انعكست فيهم خلفياتهم الثقافية والبيئة المنحدرين منها دون أن يذكر أحدهم تفاصيلها بدت فى كيانهم حتى خرجت منهم رائحة البحر والسمك؛ بدءا من منى زكى التى تخلت عن ثياب النجمة الجميلة مرتدية ثياب حنان الفقيرة البائسة المرأة التى أعيها السعى والشقاء الظاهر بملامح وجهها الباهتة ومشيتها المشتتة؛ والتقاط أنفسها المضطربة وقلقها الدائم وتوتر حركتها ورعشة صوتها؛ ثم الملابس التى بدا عليها الاستهلاك والقدم وعدم الاهتمام بتصفيف شعرها وتقليم أظافرها؛ وكذلك إبداع وروعة رشدى الشامى الذى نحت على وجهه بؤس الحياة وقسوتها؛ ثم خالد كمال؛ على صبحى؛ أحمد عبد الحميد؛ أحمد خالد صالح؛ على الطيب؛ دياب؛ عمر شريف؛ نهى عابدين؛ مها نصار؛ محمد عبد العظيم؛ ثراء جبيل الجميع كان على قدر عال من الدأب والتلاحم والإنسجام فى عمل فنى خلق من التجسيد معايشة وحياة فانتقلت الأوجاع والمعاناة بطازجتها للمشاهد.. احتار حيرة البطلة فى رحلتها وأثقلته همومها وغرق معها فى شباك الوصاية!