الأربعاء 4 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«السحر الخفى لأعمدة المجتمع» يفضح فصام المجتمعات.. و«الأطفال المحظوظون» ينتصر لشاعرية السينما

اختُتِمَت الاثنين الماضى فعاليات الدورة الـ 11 من مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة «دي-كاف» بمسرحية «الأطفال المحظوظون» للمخرج عمر غيات، والذى استمر فى الفترة من 12 أكتوبر حتى 6 نوفمبر الجاري، ضمَّ المهرجان خلال 24 ليلة ما يزيد على 30 فعالية، تضمنت عروضًا فنية أدائية، وفنونا بصرية وميديا حديثة، وموسيقى، ونقاشات وورشا فنية، بمشاركة أكثر من 80 فنانًا من أكثر من 14 دولة، تم تقديم العروض فى 13 مساحة فنية مختلفة.



 

«السحر الخفى لأعمدة المجتمع»

 

قدم المخرج أحمد العطار أحدث تجاربه المسرحية «السحر الخفى لأعمدة المجتمع» على خشبة مسرح الفلكى ضمن فعاليات «دي_كاف»، يتناول العرض مجموعة من الإشكاليات الجوهرية فى قوام المجتمع مثل العادات التقاليد الحرية والتعايش أو محاولة التأقلم مع أوضاع قد لا تناسب الفرد فى مجتمع غريب وبيئة لم يعتدها من قبل، يجمع العرض بين عائلتين عائلة سورية وأخرى من السويد، تنشأ قصة حب بين ابنة العائلة السورية مع شاب سويدى ورغم رفض العائلتين لهذه الزيجة إلا أنهما يصران وبشدة على إتمام زواجهما بعد صراع مع العائلتين، وبالفعل يتزوجان وتنتقل الفتاة للعيش مع زوجها فى بيت عائلته وتبدأ المشاحنات والخلافات الخاصة بالعادات والتقاليد والاصطدام بواقع غربى مختلف كليا عن واقعها العربي، تتكرر نفس الأزمة مع الشاب عندما ينتقل للعيش مع أفراد أسرة زوجته يجد صعوبة فى التأقلم مع مجتمع مناقض تماما لمجتمعه يريد تحويله كى يناسب منظومة القيم الدينية بمحاولات إكراهه على ممارسة عادات وطقوس إسلامية.

ينشغل دائما المخرج أحمد العطار بقيم العائلة سواء العائلة فى هيئتها الصغيرة المتعارف عليها أو العائلة التى تمثل قيم وعادات وتقاليد شعوب بأكملها، فى هذا العرض يخرج العطار من الخصوصية إلى القيم الكبرى حيث تتعرض الفتاة وزوجها دائما لتصادم كبير بسبب خلاف جوهرى بالخلفيات الثقافية فى ممارسة الحرية بالأساس فكلا المجتمعين أو كلتا العائلتين لديهما محاذير وتقاليد تمنع كل فرد من ممارسة قناعاته وحريته كما يشاء، فى بيت الزوج تهاجمها جدته لتصورها أن الفتاة قد تفكر فى ارتداء الحجاب، بينما فى بيت زوجته يتعرض الشاب لهجوم ومحاولة إكراه لممارسة شعائر الإسلام الدينية حتى تقتنع به العائلة كرجل مسلم جدير بالتداخل معهم، ثم نخرج من كل هذا التصادم إلى حالة فصام تامة تنهار فيها كل القيم أمام المصالح وتحقيق أرباح مالية، تتجاوز العائلتان الخلافات فمن يكره ويحرم الخمر قد يتقبلها فى وضع آخر بما يتفق مع ظروف معينة عندما قرر كبار العائلتين الدخول فى تجارة لقاح كورونا الممنوعة ومحاولة ممارسة هذه التجارة المحرمة دوليا، اتفق الجميع على هذا العمل وذابت الخلافات ونسى كل منهم مبادئه وقيمه جوهر العداوة الأولى بينهما، تصالحت المصالح ثم عادوا للتفكك والمشاحنة من جديد بعد أن تعارضت المصالح اشتبكت بينهما الأمور، وفى ظل كل هذه الصراعات يبقى الزوج والزوجة أصل تجمع هاتين العائلتين على عهد حبهما الأول فهما من جمعمها الحب بلا شروط والود دون قيد.

صنع أحمد العطار ديكور مسمط خاليا من الروح والألوان والمشاعر، يشبه المبانى الشاهقة البلاستيكية الخالية من أى شيء سوى الوجهة الفخمة، هذا المنزل المسمط الذى ينقسم إلى شقين، شق فى السويد وآخر بالقاهرة أو دبى يعبر بدقة وعمق عن الزيف الكبير الذى تحيا فيه العائلتين على اختلاف خلفيتهما الثقافية والدينية والاجتماعية، كلاهما مدع مزيف سواء فيما يؤمن بقناعات  أو ما يمارسه بحياته الشخصية ليس هناك قيمة أو معنى وراء ما تدعو إليه العائلة المسلمة صاحبة الصورة الدينية الزائفة والرائجة والأخرى صاحبة الفكر والحضارة والتطور، كلاهما مزيف فالاثنان وجهان لعملة واحدة هذه الجدران الشفافة صممت أقرب للمرايات العاكسة لصورة العائلتين عبرت وبشدة عن معنى الواجهة الخارجية بلا محتوى حقيقى داخلى سواء على المستوى الفكرى أو الاقتصادي، انسجم الديكور مع التعبير عن الفكرة بينما هبط إيقاع العرض كثيرا فى مواضع عدة، لكن استطاع المخرج استغلال عناصره الفنية للتعبير عن الفكرة الرئيسية خاصة فى الخطوط المرسومة والمتقاطعة بين عائلة عربية وأخرى أوروبية كنموذج مصغر لفصام مجتمعات زائفة.

 

«الأطفال المحظوظون»

 

فى يوم ختام المهرجان كان جمهور «دى كاف» على موعد مع عرض «استثنائى متفرد ضمن فعالياته.. «الأطفال المحظوظون» للمخرج ومصمم السينوغرافيا عمر غايات، عن مرض الزهايمر أو «خرف الشيخوخة» لم يشأ عمر أن يتناول أزمة هذا المرض تناولا تقليديا مبنى على قصة وحوار وأحداث درامية، اختار الحل الأصعب المبنى على الإحساس بمعنى المرض أكثر من الحديث عنه عندما يتوقف الزمن بهؤلاء التعساء أو المحظوظون بهذه التعاسة التى غيبتهم عن الوعى بالحياة، يعد عداد السنين وتسير بلا جدوى أو حدث، توقف الوقت فى هذه البقعة.. مصحة لعلاج «الزهايمر» أوت هؤلاء المرضى وكل منهم يعيش فى عالمه الخاص هائما على وجهه ومنفصلا عن من حوله، حجز هؤلاء الثلاثة فى مصحة لعلاج «الزهايمر» رجلان وامرأة يسيرون بخطى بطيئة تبدو حركتهم عسيرة هناك من يسير بعصا وآخر بكرسى متحرك والثالث بالكاد يستطيع التحرك كل منهم يخطو خطوات بلا هدف وبلا معنى، صمم المخرج تكنيك الحركة وعرض الحالة الحقيقة لهذا المرض وكأنه واقع تجسد أمامك على خشبة المسرح، حركة شديدة الدقة والاتقان فى التعبير عن مدى حالة التوهان والعزلة والعجز وانعدام القدرة على مواصلة الحياة فى حركتها المستمرة. 

«الأطفال المحظوظون» ظن بعض الحضور فى بداية الأمر أن العرض للأطفال وبالفعل تضمن الجمهور عددا من الأطفال، لكن كانت المفاجأة أن اسم العمل يصف بدقة مع مزيد من الأسى حال هؤلاء العجائز الذين عادوا إلى زمن الطفولة تجردوا من الحاضر وارتدوا إلى الوراء، فقدوا الذاكرة الحالية وعاشوا فى ذاكرة غائبة ماضية، تحولوا من كبار إلى صغار يضحكون ويبكون بلا سبب ودون مبرر واضح، سعى غايات إلى حكى هذه الحالة برقة وعذوبة وشاعرية السينما وليس بغلظة المسرح فى بناء أحداث درامية متشابكة أو حوار متكلف، انتصر المخرج لرقة المشاعر ولمس الوجدان وكأنه فنان تشكيلى يرسم لوحة اتسقت ألوانها معا وأصبحت حية متحركة برموزها وشفرات أحاديث أصحابها الداخلية. 

صمم المخرج السينوغرافيا بداية من الستارة الشفافة التى وضعت فى مقدمة المسرح عرضت عليها الترجمة ودارت من خلفها الأحداث فأصبحت خشبة المسرح أقرب بالإضاءة والحركة ولغة الصمت والديكور إلى شاشة سينما، كأن الجمهور يشاهد أحد الأفلام القديمة الصامتة التى تضع فى حسبانها الأول حكى المشاعر بالحركة وتعبيرات الوجه، استخدم المخرج مجموعة من الجمل المتفرقة لوصف حالة أو وضع فى هذه اللحظة لكن سرعان ما يعود الصمت وبعض الهمهمات لتعبير أعمق وأدق عن جوهر وصلب هذا المرض القاسى الذى ينسى فيه صاحبه كل شيء، يتجرد من شكل الحياة الطبيعية ويتحول إلى كائن هلامى مسلوب الإدراك والإرادة لا يعى ما حوله ولا يتقن فن التعايش أو التعامل مع الحياة، يذوبون فى بعضهم البعض باللعب أحيانا والحركات العشوائية المتنافرة ثم التناحر والانسجام كل تلك المشاعر وكل هذه الأوضاع جسدها أبطال العرض بحرفة وإجادة واتقان ولياقة بدنية عالية، اتحدوا معا فى كيان واحد وعلى قلب رجل واحد بملابس مهلهلة يبدو عليها عدم الاتساق والتناسق أو حتى المناسبة للمكان والوقت وهيئة الجسد، امتزجت هذه العناصر مع إبداعهم الحركى فى التعبير عن مضمون الحالة والفكرة مع الحالة البصرية والموسيقية التى صنعها مخرج العرض ليخرج «الأطفال المحظوظون» بهيئة فنية مكتملة إلا من بعض الرتابة بالإيقاع، بينما صنع العرض حالة أقرب إلى الحلم عندما يغيب النائم عن وعيه بالواقع ويذهب عقله إلى متاهات أخرى فى عالم آخر هكذا بدا أبطال العمل وكأنهم يعيشون فى حلم نتورط فيه جميعا بالتعاطف والمعايشة والمشاهدة.