واجب العزاء الافتراضى
فى مقال سابق عنوانه «التواصل غدًا» حاولت فيه أن أمد الخط على استقامته وأستشرف شكل مستقبل العلاقات فى ظل توغل وانتشار وسيطرة وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعى على كل همسة ولمسة وحركة وفكرة وخاطرة يشعر بها أو يقوم بها المستخدمون، وفى هذا المقال طرحت تساؤلًا يبدو بسيطًا وبريئًا حين قلت: «هل يمكن الاستغناء تمامًا عن التواصل العادى ونكتفى بتلك الشبكات.. فتختفى النوادى والمتنزهات ودور السينما والمسرح والمكتبات العامة وقاعات الأفراح وسرادقات العزاء؟».
التساؤل السابق يتحقق بنسب مختلفة فى كل حالة من الحالات السابقة على حدة، فالأصدقاء يلتقون عبر برامج المؤتمرات المرئية Videoconference، والرياضيون والأطفال يمارسون التمارين عبر الشاشات باستخدام أدوات يرتدونها ويتحركون ويمارسون رياضات المشى والجرى على الأجهزة الإلكترونية، كما أن المنصات الرقمية انتشرت بشدة لمشاهدة الفنون المختلفة من مسلسلات وأفلام ومسرحيات وحفلات غنائية وموسيقية.
القراءة أيضًا تحولت نوعًا ما إلى القراءة الإلكترونية من خلال المنصات المجانية أو التى تحتاج إلى اشتراك شهرى أو سنوى، أما بعض المناسبات الأخرى مثل الأفراح والمأتم، فإن الأمر ما زال تقليديًا، أو هكذا اعتقدت حتى وقت قريب حضرت فيه أحد حفلات عقد القران، حيث وجدت شاشة جانبية متصلة بجهاز حاسب متصل بشبكة الإنترنت يظهر فيه أناس من أقارب العريس يعيشون فى إحدى الدول الأوروبية ولم يتمكنوا من الحضور الفعلى فاكتفوا بالحضور الافتراضى الذى لم يمنعهم من الرقص والتمايل على أنغام الموسيقى والأغنيات الراقصة.
أما فى قاعات العزاء فلم أتعرض لذلك حتى الآن إلا أننى كنت أقوم بتأدية واجب العزاء الأسبوع الماضى فى وفاة والد أخ عزيز لى، جلست بجواره نتجاذب أطراف الحديث فى فترات الراحة بين قراء القرآن حتى إذا ما بدأ أحدهم عدنا إلى الصمت والاستماع والتدبر، إلا أننى فى إحدى المرات جلت بنظرى بين الحضور فوجدت عددًا لا يستهان به يمسك كل منهم بهاتفه الذكى ويتجول بين المواقع والتطبيقات بنهم ودأب وهو ما دفعنى للميل إلى أذن صديقى، مشيرًا إلى هؤلاء المعزيين الذين طالت رحلتهم الافتراضية طويلًا فى انفصال تام عن الآيات التى يتم تلاوتها وعن باقى الحضور وعن القاعة والمدينة والعالم الذى يعيشون فيه فقط من أجل استنشاق الهواء الذى يبقيهم على قيد الحياة.
بعد دقائق من النظر إليهم التفت إلى صديقى مرة أخرى قائلًا: «اكتب عنهم مقالًا» فأومأت برأسى قائلًا «من عينيا».