هند سلامة
«بدون سابق إنذار».. نموذج استثنائى لدراما اجتماعية رفيعة
«عاوزة تطلقى عشان لون شعرك؟!!»..سؤال استنكارى يحمل صيغة تهكمية يلقيه الزوج فى حالة من الغضب وربما الدهشة من وضع زوجته النفسى التى قررت الذهاب لاستشارية علاقات زوجية كى تصلح الأوضاع بينهما..من هذا المشهد وهذه الصيغة الحوارية التى استهل بها العمل الدرامى «بدون سابق إنذار» حلقته الأولى..قد يبدو لك عملًا متوقعًا عن دراما الحياة الزوجية؛ لكن المفاجأة الكبرى أنك على موعد مع حالة درامية استثنائية.
«بدون سابق إنذار».. دراما اجتماعية غلفتها الصدمة والمفاجأة؛ نسجتها مجموعة من الكتاب على وعى تام بحساسية العلاقات الإنسانية؛ لم تتوقف الصياغة الدرامية للعمل الفنى عند مجرد علاقات زوجية هشة؛ بينما الأمر يحمل خطورة أكبر وأعمق عن الكيان الأسرى الكبير؛ خلق العمل الفنى بناءً دراميا دائريا.. يتناول هذا الشكل من العلاقات المعقدة التى بدأت برجل وزوجته هما أصل الحكاية يصلان إلى حالة من عدم الانسجام بسبب شكوى الزوجة من إهمال زوجها الدائم؛ لكن القدر يفاجئهما بصفعة أثناء هذا الخلاف السطحي؛ يدخلان فى متاهة أخرى بعد اكتشاف إصابة ابنهما الوحيد بمرض اللوكيميا «سرطان الدم»؛ ثم الصدمة الكبرى بأن هذا الطفل ليس ابنهما من الأساس!
من هذه الضربة القاسية تنطلق أحداث المسلسل وتتوالى حلقاته بين رحلة البحث عن ابنهما البيولوجي.. وخشية فقدان ابنهما الذى تربى بينهما طوال سنوات عمره؛ خلال هذه الرحلة الشاقة تدور الدراما فى فلك واحد حول العلاقات الزوجية الشائكة ومصير الأبناء من تلك العلاقات؛ استثناء كبير تمتع به العمل سواء على مستوى الكتابة والتناول أو أسلوب الطرح الفنى فى تشريح تلك العلاقة عن الأبوة البيولوجية وشكل العلاقات الزوجية؛ عمل لا يشبه سائر الأعمال التى قدمت حول الدراما الاجتماعية يتغلغل بمرونة فى نسيج العلاقة بين الآباء والأبناء ومسئوليتهم؛ بداية من اختيار شريك الحياة ومرورا بقرار الإنجاب؛ يتعرض حسن الأخ الأصغر للبطل مروان لأزمة كبرى مع زوجته الأقل منه اجتماعيا تؤدى إلى الانفصال وخلافات حول شكل العلاقة المستقبلى مع الأبناء؛ ثم شكل آخر مستتر فى قلب الصديقة أمينة التى تخشى الزواج من أى رجل لكن فى نفس الوقت تخشى فوات فرصتها فى الإنجاب؛ تقرر إجراء عملية تجميد البويضات كى تحتفظ بفرصتها فى الإنجاب عندما تجد الأب المناسب!
لم يتوقف المخرج هانى خليفة المهموم بهذه العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة عند مجرد الإثارة والغموض من قصة فقدان الأب وزوجته لابنهما البيولوجى ورحلة البحث عنه بينما سارت الدراما لتبحث داخل هذه الدائرة المغلقة المكونة من زوج وزوجة وأبناء.. عن ولادة الأطفال وولادة الحب والمسئولية والأعباء والحياة الجديدة معهم..عن عصب الحياة الإنسانية.. تلك العلاقة الشائكة بين اثنين التى ترسم وتحدد مستقبل أناس آخرين قد تسهم فى تشكيل وعيهم.. حياتهم قناعاتهم ومخاوفهم؛ كل ما تعرض له الابن أثناء الطفولة يؤثر عليه فى سنوات عمره التالية؛ تعانى ليلى من عقدة كبيرة بسبب انفصال والدها وهجر والدتها لهما منذ الصغر لسوء معاملة أبيها لأمها؛ وبالتالى تعيش فى عقدة نفسية دفينة تنعكس على حياتها الزوجية بالكامل؛ فهى شديدة الحساسية تجاه تصرفات زوجها يطاردها شبح تكرار قصة أمها؛ تسيطر هذه العقدة على عقلها بشكل مبالغ فيه حتى فى أحلك فترات حياتها يبدو خلافها مفتعلًا وغير منطقي؛ دائمة المبادرة بالهجوم ساعية لهدم العلاقة بنفسها!
قد تعانى ورش الكتابة أحيانا من بعض التشتت الدرامى حتى يشعر المشاهد وكأنه يرى مجموعة من الحلقات المنفصلة لعمل واحد؛ بينما نجح هذا العمل وبجدارة أن يخرج بروح واحدة على الرغم من تعدد المشاركين فيه؛ بداية من ألما كفارنة صاحبة القصة والمعالجة الدرامية ثم الكتاب سمر طاهر؛ عماد صبري؛ كريم الدليل ومعالجة سيناريو عمرو الدالى تحت قيادة المخرج الواعى هانى خليفة؛ حيث يبدو المخرج دائما شديد الحرص والوعى والحساسية للموضوع الذى هو بصدد تناوله؛ تفاصيل دقيقة فى صياغة الحوار المتقن بالكلمة ورسم الشخصيات من واقع الحياة؛ شخصيات تشبه كل الأزواج والزوجات بطبقات المجتمع على اختلافها؛ تبدو أحيانا واضحة وأحيانا أخرى رمادية مبهمة.. لا تعلم أى جانب تنحاز إليه.. من المخطىء ومن المحق لن يترك لك السيناريو حكما مطلقا على شخصية بعينها بل سيتأرجح عقلك فى الحكم عليها كما تتأرجح الشخصيات بفعل القدر..!؛ دراما الحياة اليومية فى كامل وأبهى صورها قدمها خليفة مع فريق الكتابة بحذق واقتدار؛ حلقات تسير بإيقاع رشيق متصل بنفس إيقاع الحلقة السابقة فى عنصر المفاجأة والترقب والغموض؛ غلف العمل حالة شعورية مزجت بين الخوف من المجهول وترقب حدوثه ثم الرغبة والفضول فى الوصول إلى الحقيقة مع خشية وقوعها.. والسؤال الحائر المسيطر على قلب وعقل الأب والأم.. ماذا لو عثرا على ابنهما الحقيقي؟!..هل سيتركان هذا الطفل الحبيب الذى تربى بين أحضانهما سنوات؟!!.. هل تتوقف الأمومة وتقاس بالولادة فقط؟!.. أسئلة كثيرة تدور فى ذهن أبطال العمل وبالتبعية فى ذهن الجمهور الذى تحمل معهم هم مصيرهما ومصير عمر!
أبدع آسر ياسين فى أداء دور مروان الأب المذبذب الحائر المتوتر دائما الذى تاه عقله وقلبه بين صدماته المتتالية؛ صراعات نفسية كبيرة يعانيها هذا الرجل حول ابنه وزوجته ودهشته من سلوكها المفتعل لأزمات دائمة؛ هدوء وسلاسة واتزان شديد تمتع به ياسين فى أدائه الرفيع لهذا الرجل الكتوم الذى يرهقه البوح؛ بين الرغبة فى الاحتفاظ بالمشاعر وكتمانها وصعوبة البوح بها حوار نفسى داخلى ظهر أثره فى نظراته التائهة.. ولفتاته.. وحركة جسده.. وإيقاع أنفاسه وتبدل نبرة صوته حتى فى لحظات الغضب؛ شاركته البطولة عائشة بن أحمد فى دور الزوجة؛ كما أبدع أيضا أحمد خالد صالح فى دور حسن الأخ وزوجته جهاد حسام الدين التى قدمت دور الفتاة الشعبية بعيدا عن الكليشية المكرر بالدراما التليفزيونية؛ بينما كان للطفل الصغير سليم يوسف فى دور عمر حضور كبير بأداء تمثيلى شديد الروعة والإتقان لعب سليم بحرفية الكبار؛ وكذلك كان للفنانة بسمة ونور شعيشع بصمة خاصة بمشاركتهما فى هذا العمل؛ «بدون سابق إنذار»..نموذجًا استثنائيًا لدراما اجتماعية رفيعة المستوى.