الإثنين 30 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«عريس البحر» الموال الشعبى من سحر الإنشاد إلى صياغة مسرحية بديعة

يأسر الموال الشعبى بتركيبته اللحنية وحواره المنغم والسرد القصصى أذن مستمعيه بأداء منشده؛ يبقى عالقا بسمعك لا تخطأه أذنك؛ تتميز هذه المواويل بقدرتها الخارقة على البقاء فى وجدان الجماهير وترك أثرا لا يمحى بالشعور الجمعى من شدة إتقان مطربوها لفنون الحكى والإرتجال المنغم فى عرض المآسى والعبر حتى يمتزج فيها الواقع بالخيال؛ من وحى هذا الأثر، وذلك الشعور اختار المخرج المسرحى وليد طلعت موال مسعود ووجيدة للفنان الشعبى محمد طه ليعيد صياغة الأشعار فى دراما مسرحية كاملة بعرض عريس البحر على خشبة مسرح روابط.



لم يتوقف عنصر المفاجأة والاستثناء عند قدرة وليد ومعه الدراماتورج محمد عادل بتحويل هذه الصور والدراما الشعرية البليغة فى نسيج مسرحى درامى عريض مكتمل الأركان؛ بينما كان عنصر المفاجأة والدهشة الأولى من ممارسة طلبة الجامعة البريطانية لهذا النوع من الفن الشعبى بالأساس؛ المعروف أو المعهود عن طلاب حديثى السن أو العهد بالممارسة المسرحية خاصة بالجامعات غير المتخصصة فى هذا الفن الجنوح إلى تناول الأعمال الشهيرة مضمونة النجاح الفنى والجماهيرى مثل عروض المسرح العالمى أو بعض أعمال المسرح العربى يسيرة التناول؛ بينما ليس مألوفا أن يقرر مخرج ومعه المؤلف مع مجموعة من طلاب الجامعة البريطانية تقديم موال شعبى من صعيد مصر أغلب الظن لم يسمع به أحدهم من قبل باستثناء مخرج العمل وكاتبه!.. بالتالى استطاع وليد إحياء وغرس نموذج من التراث الشعبى بين وجدان هؤلاء الشباب والجماهير المتابعة لهم..

مسعود ووجيدة موال شعرى جمع بين فنون الحكى والإبداع الغنائى بالإنشاد والإرتجال يمزج بنعومة شديدة بين حكى وارتجال أشعار فى صور شعرية بديعة عن مأساة إنسانية بين الأخوين هريدى وعمران بعد موت الأب يدخل الأول فى صراع طويل مع أخيه على الميراث؛ صراع يؤدى به إلى التآمر على قتل أخيه ثم محاولة قتل ابنه حديث الولادة بينما يلعب القدر لعبته ويحيا الطفل على غرار قصة النبى موسى؛ تركت الأم شامة ابنها فى صندوق بالبحر ليصبح فؤادها فارغا وتبقى حزينة إلى أن يشب الوليد فى أرض غير أرضه مع أب وأم آخرين ثم يرى شقيقته وجيدة عن طريق المصادفة يقع فى حبها ويتزوجها لكن الزيجة لم تكتمل بعد عزوفه عنها لاشعوريا.

تروى المواويل الشعبية فى شكل من أشكال الإنشاد الدينى فهى عبارة عن مجموعة من القصص الشعبى تجسد الصراع الإنسانى وأشكال تصاريف القدر فى حياة البشر؛ حمل موال مسعود ووجيدة عددا من القيم الكبرى والعبر فى عرض لنماذج من الصراع الأزلى بين الخير والشر ممثلا فى عقدة قتل الأخ من قابيل وهابيل؛ ودور القدر فى إنقاذ طفل وليد من عرض البحر بعد النجاة من القتل كما نجى الله موسى من فرعون؛ ثم الحب المحرم والزواج الباطل من الأخت بأخيها.. كل هذه القوانين الإنسانية المتحكمة فى أقدار البشر يصيغها الموال فى قالب شعرى منغم يحمل مزيجا من الألفاظ الشعبية وعادات وتقاليد البيئة المحيطة به والابتهالات الدينية القريبة من الشعر الصوفى مثل ابيات ذكر الله والإستعانة به والعودة إليه ويده التى ترد الظالم وتنصر المظلوم فى نهاية الرواية؛ فى عريس البحر ينقل صناعه الجمهور من مجرد مستمع يسرح بخياله منفردا إلى مشاهد يتجسد هذا الحكى الغنائى فى حدث أمامه.

فى قالب مسرحى ممتع اقترب أصحابه من ممارسة المحترفين فى إتقان اللهجة بهذه المنطقة من الصعيد أو فى الأداء التمثيلى والشعورى بكل أبعاد الدراما والمأساة التى احتوى عليها هذا الموال؛ تمكن المخرج من ربط أذهانهم ووجدانهم بشيء أصيل من تراث شعبى قديم؛ أيقظ فى داخلهم مناطق إحساس ووعى ببيئة اجتماعية لم يألف أغلبهم ثقافتها أو الاحتكاك بها من قبل؛ بهذه الخطوة الفنية الجريئة يفتح وليد طلعت شكل ومستوى آخر من التدريب الفنى لهؤلاء الشباب قد يسهم فى ثقلهم على المستوى السمعى والشعورى والوعى بهذه الدراما الشعرية البليغة عن إحدى المناطق فى صعيد مصر؛ لم يقل العرض المسرحى بلاغة فى صياغته الدرامية للدراماتورج محمد عادل عن عذوبة الموال الشعري؛ مسرح عادل هذا الموال الشعبى البديع فى صنعته وخياله تمكن من تحويل هذه الصور الشعرية إلى صور درامية مسلسلة منسجمة ومتناغمة فى تتابعها المشهدى بخفة واقتدار؛ وكأنك أمام عمل درامى تليفزيونى بحلقات مسلسلة تنتظر حلقته الثانية مع فترة الإستراحة الأولى وليس مجرد عرضا مسرحيا عابرا؛ برغم المط والتطويل فى بعض مشاهد العرض التى تحتاج إلى مزيد من التكثيف إلا أنه قدم وجبة دسمة تستحق المشاهدة والإعادة على خشبة مسرح أكبر تتسع للديكور الضخم الذى حمل أكثر من مستوى ودلالة لمشاهد العرض المتنوعة مع تصاعد أحداثه الدرامية. 

قد يدفع الموال المخرج إلى تقديم مأساة مسرحية كعادة المآسى بالمسرح الإغريقى فى صراع الإنسان مع القدر بينما لعب طلعت فى هذا العرض على التحرر حتى من نمط تقديم المآسى التقليدية؛ تعمد المزج بين هذه المأساة الإنسانية أو مآسى الحياة ببهجتها أيضا؛ وكأن الموال تحول فى صياغته الدرامية إلى شكل من أشكال الحياة الإنسانية بأحزانها وأفراحها ومبهاجها ومآسيها؛ طال زمن العرض وتجاوز الساعتين وتعددت المشاهد بين الاستعراض والغناء والرقص والتمثيل والتعبير الحركى الذى حمل الكثير من الدلالات الفنية مثل مشهد سباحة صندوق الطفل فى البحر الذى جسدته مجموعة من الفتيات رقصا وكأنهن حركة الموج فى نقله من مكان إلى مكان ومن عهد إلى عهد؛ قدم وليد عرضه بذهن مخرج حر؛ تحرر من قيود المأساة فى قاتمتها بالموال ولعب على فنون العرض المسرحى بأشكاله المتنوعة من دراما وكوميديا ورقص وغناء؛ ثم المشاهد الأقرب للصورة السينمائية التى استخدم فيها عناصر الإضاءة والحركة البطيئة «slow motion» والتى تكررت فى الإنتقال من حدث إلى آخر استعرض فيها مهارات ممثليه الأدائية والحركية وكذلك مهاراته الإخراجية فى تتابع المشاهد وتحول الأحداث والدراما.

أبدع المخرج ومعه مجموعة طلبة الجامعة البريطانية فى تقديم معزوفة مسرحية مستوحاه من أنغام هذا الموال؛ تحولوا جميعا إلى نغمات ناطقة بأجسادهم وألسنتهم وأدائهم التمثيلى معا؛ حولهم المخرج والمؤلف إلى آلالات تعزف الموال كل بنغمته الخاصة؛ استوعب كل منهم النغمة التى تليق بموهبته الأدائية؛ برشاقة واقتدار هضم كل فرد أبعاد الدراما وانطلقوا معا فى سيمفونية مسرحية بديعة شارك فى عزفها عدد ضخم من الممثلين الشباب هم محمد عطية؛ فادى جمال؛ يوسف على حسن؛ سارة حامد؛ سما حسن؛ شريف غانم؛ أحمد حليم؛ محمد عبد المجيد؛ حبيبة محمد؛ على رامي؛ عبدالرحمن سمير؛ تامر مهيب؛ على رامي؛ آن أشرف؛ ريم الحبيبي؛ محمد رأفت؛ رنا هشام؛ إيمانويلا؛ آلاء كمال؛ الطفل سليم وليد الجندي؛ الطفلة ليلى وليد طلعت؛ لم تكتمل هذه الدراما المسرحية البليغة إلا بمشاركة مصممة الاستعراضات شيرين حجازي؛ موسيقى وألحان محمد الصاوي؛ ديكور دكتور حمدى عطية؛ أشعار أحمد شاهين؛ إضاءة أبانوب فيكتور؛ أزياء أميرة صابر؛ مكياج ماجد جمال.