الأربعاء 16 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«نيرون» يحرق السودان

«نيرون» يحرق السودان

لست بصدد سرد رواية تاريخية، وإنما أتوقف مع «عِظة» يقدمها التاريخ منذ مئات السنين للحاضر، صحيح أننا لسنا أمام نفس الزمان والمكان وحتى الشخصيات، لكن لنا فى تاريخ السابقين عِبرة، فقد أعادنى مشهد الإقتتال فى السودان، على مدى نحو عام ونصف، وفاتورة الحرب العالية على الشعب السودانى ودولته يوميا، إلى سيرة «نيرون» الرومانى الذى أحرق بلاده.



«نيرون»، هو الإمبراطور الرومانى الخامس والأخير، ورث نزعة دموية من والدته، فقتل كل إنسان يهدده، وأغرق روما فى الفتن، ومع تدهور الوضع السياسى وفشله فى السيطرة على المدينة، قام بأشهر جرائمه، وهى حريق روما الشهير سنة 64م، ليظل «نيرون» بهذه الجرائم واحدا من الحكام الذين صاروا مضربا للأمثال عبر التاريخ، يُشار به إلى أهل الفتن والشرور.

يستحضر المشهد السودانى الحالى، سِيرة «نيرون روما»، خصوصا عند النظر لتطوراته اليومية، من مشاهد التدمير، ومعاناة الملايين الإنسانية، وإذا كنا أمام تاريخ مختلف، لكنها نفس الأخطاء تتكرر بأشخاص مختلفين، مع دوامات لا تنتهى من الخلافات والإنقسامات والفتن، على مدى يزيد عن خمس سنوات، وعندما فشلت مسارات الشراكة، زادت فتنة التشرذم والتحارب والإستقطاب، وعندما أُغلقت كل أبواب الحوار، غاب صوت الحكمة والضمير الوطني، وحضر صوت البنادق والرصاص!.

وعلى مدى نحو ثمانية عشر شهرا من العدائيات والمواجهات المسلحة، لا نسمع سوى ضجيج «الجميع» عن هول المأساة، وأحاديث للأطراف المتحاربة عن مصلحة السودانيين، وواقع الأمر، أن مرارة الحرب لا يتجرعها سوى الشعب، فأكثر من 13 مليون سودانى نزحوا بسبب الإقتتال بالداخل ولدول الجوار، وفقا للتقديرات الأممية، وأكثر من 25 مليونا مهددون بخطر المجاعة، فضلا عن فاتورة الدمار، التى تقدر بأكثر من 200 مليار دولار، مع توقف مرافق حيوية كالتعليم والصحة والكهرباء وغيرها، ورغم ذلك لم نرى تجاوبًا أو إرادة للتفاعل، مع مبادرات ودعوات وقف إطلاق النار التى تعددت مساراتها ومنابرها.

ووسط هذا الواقع المرير، يخرج قائد «مليشيا» الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) مؤخرا، ليوزع اتهاماته يمينا ويسارا عن مسببات الحرب والدمار، وتناسى ما اقترفه وقواته من جرائم بحق السودانيين، ومنشآت الدولة، عندما اختار المواجهة المسلحة مع المؤسسات الوطنية، والصادم أنه لا يكتفى بما دُمِر، ولكنه واصل وعيده للسودانيين، بالإنتقال «للخطة باء»، وتجهيز مليون شخص للقتال مع قواته، ما يعنى مزيدًا من نار الحرب والإقتتال.

ويبدو من فرط “عزلته” عن الواقع والشارع السوداني، أنه صُدم بالإحتفاء الشعبى مع أنباء استعادة الجيش السودانى لمناطق عديدة مؤخرا، فخرج ليُزايد على مواقف الدولة المصرية (الشريفة) الداعمة للسودان وشعبه، بخطاب عدائى (بدى أنه يخدم به داعميه من أطراف خارجية)، وبإدعاء منافى لعقيدة وسياسة مصر الخارجية، زاعما “غارات جوية مصرية على قواته”، لكن “الخارجية المصرية” فى معرض نفيها على ذلك، دعت المجتمع الدولى لإثبات صحة تلك المزاعم، (والبينة على من ادعى).

«نيرون السودانى» ليس فقط شخصا أشعل حربًا تحرق السودان، فإذا كانت الضحية واحده ومعروفة ولا يختلف عليها أحد، (السودان وشعبه)، فالفاعلون كُثر، وإذا كان «الأظلم» من بدأ الفتنة بتجييش قوة عسكرية موازية للمؤسسة العسكرية الوطنية، فليس من الإنصاف، غض الطرف عن ممارسات «النخبة» أيضا، فهى ليست بعيدة عن أخطاء “نيرون”.

والواقع أن نخبة السودان، السياسية والعسكرية والمدنية والمجتمعية، وحركات المقاومة”، لم تع درس تاريخها المعاصر (انفصال الجنوب)، حتى تتجنب دوامات الانقسام والصراع على السلطة والثروة، أو حتى خطايا التهميش والسيطرة، التى غاب معها الإندماج الوطنى عن السودان منذ استقلاله عام 1956، وسارت فى نفس الطريق بعد ثورة ديسمبر والإطاحة بنظام عمر البشير فى إبريل 2019، ومع كل خطوة علق عليها الشعب السودانى الآمال لانقاذه من حالة التدهور الذى يعيشه، كانت صراعات النخبة كفيلة بتعطيلها أو تجميدها، والعودة بالأوضاع للمربع صفر.

تكفى مشاهد الدمار التى نشاهدها يوميا فى أنحاء السودان جراء الإقتتال، لنرى ماذا فعل “نيرون السوداني” فى بلاده، وتكفى صرخة آلاف السودانيين الذين فروا، من بين ألسنة النار التى تحرق وطنهم، لنُقدر حجم تأثير ما يحدث على دولة أنهكتها حروب داخلية، مع جماعات تمرد ومقاومة وميليشيات مسلحة، على مر عقود طويلة منذ الإستقلال، وحاضرة حتى الأن فى المشهد السوداني، دون أن تُنهيها عِبرة ودرس انفصال الجنوب فى 2011.

من الصعب استقراء مصير الأزمة فى السودان، وبينما أصوات المدافع والرصاص لازالت حاضرة، لكن على النخبة السودانية أن تتخلى عن حيادها وتقف مدافعة عن السودان ومؤسساته الوطنية، وتتصدى لأى محاولات خارجية للتدخل قد تزيد الأوضاع اشتعالا، قبل أن نستيقظ على مصير لا نجد فيه السودان كما كان.