حاجة تخوف
رعب المكاشفة وجحيم مواجهة الذات على خشبة مركز الإبداع الفنى
هند سلامة
“من أنت خلف نفسك”؟!.. لحظة انهيار الجدار الفاصل بين الوعى واللا وعى تصاب النفس الإنسانية بعلة الهيستريا وهو ما شخصه فرويد بمرض العصاب؛ كان سيجموند فرويد أحد علماء النفس البارزين الذى هداه حدسه إلى إمكانية الوصول لمخاطبة اللا وعى؛ المنطقة الكامنة فى عمق النفس البشرية، التى تختزن كل صدمات وعقد الطفولة وتجارب الحياة القاسية؛ وبما أن هذا الكامن فى نفوسنا غير مرئى ربما يظهر فى هيئات متفاوتة على مدار رحلة حياتنا وحتى الممات؛ فهو أدعى أن يكون أكثر رعبا من أى شىء آخر؛ فما تحمله النفس الإنسانية من تعقيدات وتناقضات أشد رعبًا وخوفا من الموت ذاته.
فى “حاجة تخوف” يخاطب المخرج والمؤلف خالد جلال هذا الرعب.. يطفو بتلك المخاوف والمخزون الداخلى على السطح بين مجموعة من الأشخاص أصيبوا بحالة من الهلع والهيستيريا بعد حبسهم فى قصر مهجور يسكنه مجموعة من الأشباح تم إغلاق أبوابه عليهم؛ فى تلك البقعة المهجورة التى لا يدرى أى منهم أين تقع؛ يبدأ أهل هذا القصر “الأشباح” فى التلاعب بنفس وأعصاب هؤلاء؛ تبدأ اللعبة عندما يقف كل منهم أمام مرآة عاكسة لتشوهاته النفسية حتى يبدو كل من يقف أمامها مشوه الملامح وكأنه مسخ؛ فى هذه اللحظة تنفجر الحقيقة وتبدأ لحظات المكاشفة بخروج كل ما خفى من نوايا وراء أفعال سواء كانت عن عمد أو غير عمد إلا أنها تسببت فى أذى وتدمير حياة آخرين وفى كل مرة ينهار أحدهم أمام ضميره مرددا عبارة.. “أنا ما عملتش حاجة”.
يبدو العرض فى بنائه الدرامى أشبه بأفلام الرعب والإثارة فى تهيئة الجمهور من البداية بمشاهدة مجموعة من الفتيات أقرب إلى الأشباح، وهن بالفعل أشباح قاطنى هذا المكان يتحركن حركة واحدة بشكل متكرر منذ لحظة دخول الجمهور صالة العرض وحتى استقرارهم استعدادا للمشاهدة؛ تنذر هذه الحركة والديكور والملابس الكئيبة والوجوه الشاحبة أننا أمام عمل مختلف شكل غير معتاد تناوله كثيرا بالمسرح؛ تنتمى تيمة الرعب عادة إلى أفلام السينما العالمية؛ لكن هنا يطرح المخرج الرعب طرحًا مختلفًا؛ رعبًا من نوع آخر جمع هؤلاء فى قصر مهجور وكأنهم حبسوا فى البرزخ؛ المنطقة التى تحبس فيها الأرواح بعد الوفاة؛ وبدءوا مرحلة الحساب ورؤية كل شيء بوضوح حيث كشف عن الكل غطاؤه فأصبحوا حادى البصر؛ فى هذه المنطقة التى انعدم فيها الزمن والسيطرة على النفس والحركة والعقل حتى أصبحوا جميعا تحت رحمة هؤلاء الأشباح يحاكمونهم على ما اقترفوا من ذنوب وفى كل مرة وبعد لحظة الانهيار والاعتراف بالذنب والسقوط فى إغماءة الموت تلتقط إحداهن صورة لكل من سقط مغشيا عليه؛ وكأنها تسجل ما حدث فى أرشيفه بالعالم الآخر لتبقى الأدلة والحجة عليه؛ فهؤلاء الوافدون الجدد لهذا القصر الذى يقع فى منطقة خارج الزمان والمكان دخلوا عالم الموتى وحانت لحظة الحساب!
تردد فتيات القصر “هنلعب مع الضيوف يا بابا”! ثم يطوف الحارس بمصباح مشتعل وكأنه حارس هذا الجحيم الأشبه بجحيم سارتر فى مسرحيته الأشهر “الجلسة سرية” عندما ختمها بعبارة “الجحيم هم الآخرون” هؤلاء الآخرون ساكنو المكان الذين تسببوا فى فضح وتعرية الضيوف الجدد كانوا هم الجحيم فى ذاته.
إطار فنى شديد الروعة والذكاء فى تناول أوضاع اجتماعية مقيتة وقاسية وعرضها للنقد اللاذع بالسخرية فى مشاهد متتابعة تنوعت بين الكوميديا والتراجيديا فى التأسف والتأسى على ما آل إليه وضع الإنسان المعاصر؛ مشاهد متتابعة ومتنوعة تناولت أشكالا وأنماطا اجتماعية تعكس مدى تدنى الذوق العام والأخلاق والاستسهال فى الوصول إلى الأهداف متعجلين المكسب السريع؛ انهيار قيمنا الكبرى وانحطاط طال كل شىء؛ بين مجموعة من الرسومات المتفرقة التى رسمت بعشوائية منظمة على جدران المكان وجزء من تمثال لمانيكان لم تكتمل ملامحه ومرآة مشوشة فى عيون أصحابها توالت لوحات الفوضى الاجتماعية التى نعيشها دون إدراك لحجم الكارثة التى لن ندركها إلا بعد فوات الأوان.
فى هذا القصر الذى فات فيه أوان ندم هؤلاء الحمقى على ما اقترفوا من أفعال يحاكم كل منهم ضميره ويصغى لصوته الداخلي؛ قدم المخرج ومعه الأبطال هذا الفخ الإنسانى العنيف بمهارة واتقان شديد بدءا من تصميم الملابس الكئيبة ونهاية بأداء كل فرد بالعمل برغم العدد الضخم لأبطاله إلا أنهم يظهرون معا فى دقة ونظام وحركة محسوبة فى لحظات الدخول والخروج من خشبة المسرح والاصطفاف فى مشاهد جماعية كاملة؛ حيث يقدم المخرج هذه المرة أكثر من 50 شابا وفتاة على خشبة المسرح دفعة واحدة يظهرون معا فى مشاهد جماعية ثم مشاهد يفترق فيها الجميع لينقسم كل منهم إلى مجموعات تناقش قضية مختلفة؛ وجبة مسرحية مشبعة قدمها جلال مع طلاب دفعته الجديدة لعبوا جميعا على قلب رجل واحد فى بنيان مرصوص استعرض كل فرد موهبته بالتمثيل والأداء الحركى ..دفعة من الموهوبين تبشر بضيوف جدد حجز كل منهم مقعده على كرسى الاحتراف!