فى معرض الجبالى وقنديل
«تواصل الأجيال».. سيمفونية تشكيلية بين الأستاذ و تلميذه
د.أحمد سميح
لم يكن الفنان الكبير الراحل حسين الجبالى مجرد أستاذ أكاديمى يعلم طلبته ومحبيه فنون الجرافيك فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة فقط، بل كان معلمًا وقدوة يحتذى به فنيًا واجتماعيًا، فالجبالى على علمه وتميزه فى فنون الحفر والطباعة التى درسها فى إيطاليا بشتى أشكالها.. كان رجلًا شديد التواضع فاعلا ومؤثرا فى كل من تعامل معه، وعلى رأسهم تلاميذه ومحبوه ومريدوه الذين حملوا على عاتقهم استكمال رسالته ردا لجميله فى تواصل فنى رسم ملامحه تلميذه النجيب الأستاذ الدكتور سيد قنديل رئيس جامعة حلوان والعميد الأسبق لكلية الفنون الجميلة بالقاهرة.
حالة من الحب والاستدعاء لفكرة تواصل الأجيال يجسدها معرض “تواصل الأجيال” الذى افتتح مؤخرا بقاعة أفق التابعة لقطاع الفنون التشكيلية وافتتحه د.أحمد هنو وزير الثقافة مع رجال السياسة والتعليم الجامعى فى مصر.
ينتمى “الجبالي” إلى الجيل الثانى من رواد فن الحفر المصرى بعد الحسين فوزي، وهو استاذ أكاديمى متميز لفن الجرافيك ساهم فى تخريج أجيال كثيرة وعديدة بقسم الحفر.. وهو كذلك طاقة عظيمة وكبيرة من العطاء لخدمة الحركة الفنية التشكيلية، فبجانب الدراسة فى ايطاليا كان حب الفن والانحياز لرسالته حتى فى أكثر الفترات انشغالا أحد المشتركات بين الجبالى وقنديل، فالجبالى الذى جمع بين تدريس الفن والإدارة والعمل المجتمعى متدرجا بين مناصب نقابة التشكيليين وصولا إلى منصب النقيب التى لم تمنعه من ممارسة حبه وشغفه للفن، وهو الحال نفسه مع “قنديل” الذى لم تمنعه رئاسته لجامعة حلوان وقبلها عمادة كلية الفنون الجميلة أيضا من التأثير والتأثر والتفاعل الفنى فى رؤية فنية فريدة تجمع بين الخبرة والتجديد بل وتقديم القدوة فى نموذج واضح لسعى الدولة المصرية لبناء الإنسان.
عرف “الجبالى” كفنان حفار ولكن المعرض يلقى الضوء على فنه ورسومه فى مجال الرسم والتصوير باعتباره فنانا شاملا، فقد استخدم الفنان حسين الجبالى العديد من طرق الحفر والطباعة فى تنفيذ أعماله الفنية مثل الطباعة من السطح البارز والطباعة الغائرة والبارزة على الخشب والمعدن بطرائقها المتعددة، كما مارس أيضا الطباعة من خلال الشاشة الحريرية والطباعة المسطحة و”الليثوجراف”، ويضم المعرض أكثر من 80 عملا فنيا، والأعمال المعروضة للفنان الجبالى لم تعرض من قبل حيث قام الفنان بتنفيذها ما بين أعوام 2000 و2003 وهى الفترة الأخيرة من حياته التى عانى فيها مع المرض لكنه ظل فيها مخلصا لفنه ورسومه.
تميز “الجبالي” بمصريته الشديدة فى أعماله منطلقا من استخدامه للخط العربى وصولا الى الحروفية والتشكيل بالخط والحرف كبعد فلسفى وكقيمة تشكيلية استوحاها من التراث المصرى القديم والإسلامى والقبطى، وتتنوع أعماله بين فن الحفر والرسم والتصوير بالباستيل فى لوحات تحمل بين طياتها تراتيل وأناشيد صوفية تتشكل فى طلاقة خطية لونية من الحروف العربية وتتداخل مع الشكل الهرمى بمخزونه الطاقى أو مع الأشكال الهندسة على تنوعها، ويتداخل فيها الخط الأفقى مع الخط الرأسى لخلق إيقاعات لا تنتهى فى شكل جديد أكثر معاصرة فى قالب فنى متميز نابع من بيئتنا وموروثاتنا، فالخط عنده لين متنوع الأشكال صعودا وهبوطا، يرسم بتداخلاته عوالم لونية وخطية أخاذة، محملة بإيحاءات روح الخطوط الهيروغليفية وانحناءات القباب الإسلامية لتتشكل فى هيئة الحروف العربية، فتارة يستخدمها الفنان داخل مربع أو مستطيل تحدثه تقاطعات الخطوط الرئيسية، محدثا من ذلك شكلا بنائيا معماريا كذلك، تحدث تناغما بتجاورهما مع الأشكال والمسطحات الأخرى ومع تغيير الألوان المستخدمة فى كل مرة، فينتج من كل هذه النماذج أشكالا أكثر ثراء وتناغما.
فى أعمال الفنان سيد قنديل نجد ثنائيات الانتظار والترقب سائدة فى أعماله وكأنها تستدعى الحوار بين العمل الفنى والمتذوق، تستثيره حول رؤاه وأفكاره، حيث تنتمى أعمال “قنديل” إلى عالم مواز ترسم ملامح وجوه آدمية تحوطها مفردات وعناصر تتنوع ما بين أشكال نباتية وطيور بما لها من رمزية وخصوصية تجمع ما بين السكون و الحركة وما بين الثبات والانطلاق يجسدها من خلال خطوط سريعة بالقلم أو الفرشاة مسكونة بالانفعال اللحظى.
جاءت خطوط الفنان قوية ومختزلة فى شكل كتل ومساحات خطية متأثرا بروح الجرافيكى بداخله، فهو يرسم ويلون، وكأنه يقدم عملا خطيا منحوتا كحال كل الحفارين، يستحضر فيها العديد من الوجوه المعبرة عن الواقع كتيمة أساسية، ففى أعماله الفنية يرسم “قنديل” وجوهًا بشرية بأسلوب تجريدى وبسيط، حيث يستخدم الفنان خطوطًا سميكة وأشكالًا هندسية لتركيب الملامح الأساسية للوجه، حيث تبدو الوجوه فى حالة تأمل أو تركيز، ولكن الغموض يحيط بتعبيراتها تاركة للمشاهد حرية تخيل الحالة النفسية لكل شخصية.
تتميز اللوحات بألوان هادئة ودرجات فاتحة من الأصفر والبنى مع لمسات من الأحمر، مما يخلق توازنًا بصريًا بين الألوان الدافئة والباردة الخلفية تأتى بدرجات متقاربة من اللون البنى، مما يمنح التركيز الكامل على الوجه ويعطى انطباعًا بالعزلة أو الفراغ من حوله، وكأنما الشخصية فى حالة تأمل داخلية أو مراجعة ذاتية.
الخطوط الحادة والواضحة تشير إلى نوع من الصلابة أو القوة، ولكن استخدام الألوان الفاتحة يضفى لمسة من الهدوء على اللوحة، التركيبة الهندسية للوجه تدعو المشاهد للتفكير فى ماهية الشخصيات البشرية المعقدة، وما قد تخفيه من مشاعر حالة نفسية مليئة بالتساؤلات، حيث يتضح أن الشخصية تسعى لفهم أو التواصل مع ما يحيط بها.
فى إحدى لوحاته يصور ملامح الجندى المصرى فى شموخ الجبال، وفى لوحات أخرى يرسم الوجوه الإنسانية وقد رسم فيها الزمن خطوطه وترك آثاره فى مبالغات تعبيرية تعبر اللوحات عن حالة من التناغم الداخلى والتواصل مع الطبيعة أو الذات، مما يمنح المشاهد إحساسًا بالسلام والرضا ويشجعه على التأمل فى رمزية العلاقة بين الإنسان والكائنات المحيطة باعتبارها صنيعة الخالق التى تتفاعل معها وتتأثر بها وبرمزيتها لتوصيل معانٍ مختلفة تعتمد على السياق الثقافى والفنى للفنان، فغالبًا ما يرمز الطائر إلى الحرية والانطلاق بسبب قدرته على التحليق بعيدًا فى السماء، كما يمكن أن يمثل الروحانية أو الاتصال بالعوالم العليا، وهى أيضًا تمثل رمزًا للأمل أو السلام وفى بعض الأحيان، يرتبط الطائر برمز الفراق أو الهجرة، كونه يغادر من مكان إلى آخر، مما يجعله تعبيرًا عن الترحال أو البحث عن الذات.
القط يرمز فى كثير من الأحيان إلى الغموض كما كان فى الفن المصرى القديم مقدسًا ويرمز إلى الحماية والأمان، حيث كان يعتقد أن القطط تطرد الأرواح الشريرة وتحمى المنازل.
يمثل القط أيضًا التوازن بين الحرية والحذر، أيضا السمك غالبًا ما يرمز إلى الحياة والتجدد، ويُعتبر السمك رمزًا للإيمان والخصوبة، كما يمثل أيضًا الصمت أو الحكمة، حيث يعيش فى عالم صامت تحت الماء، ما يجعله رمزًا للتأمل الداخلى، العمق، والبحث عن الأسرار الخفية، كل هذه الرموز التى استدعاها “قنديل” مضفيا عليها دلالات جديدة ورمزية مختلفة.