أرواح طاهرة ونفوس حائرة فى الأدب

مروة مظلوم
أمى هى النافذة الأولى التي أطللت برأسى من خلالها لأرى العالم بعينها.. حاولت قدر الإمكان أن تجعله هادئاً مسالما محباً حتى أنعم بسلام وصحة نفسية.. ولكن هيهات هى الدنيا وليست الجنة بنعيمها وكلما حاولت أن تعزلنى عن أهوالها وفظاعتها عانت هى.. وتألمت أنا لمعاناتها.. وحفرت الدنيا ملامح وجهى ومهدت لى طريقى بها رغماً عن أحلام وآمال وأنف أمى .. لكنها لم تمل العطاء كما لم تمل الدنيا الأخذ .. رحلت هى وتركت لى أثرها فى كل زاوية من عالمى فصرت لا أحمل بعضاً من ملامحها فقط .. بل كلامها وطباعها وانفعالاتها واستجابتها للمواقف وخوفها وقلقها الذي لاينقطع على أطفالها.. وتبدلت قلباً وقالباً لقد صرت أمى.. وما انتقدته بالأمس فيها صار حقيقتى اليوم.
هذا حال البشر ولكن الأدباء والشعراء والفنانين هم الأكثر حظاً فى التعبير عن مشاعرهم تلك فى قصة فى رواية يرسمون ملامح أمهاتهم ويخفونها خلف اسم مستعار وإليكم عدداً من الأمثلة عن أمهات الأدب والأدباء.
أمهات نوبل
بداية نعيش مع رواية «الأم» للأديب الروسي، مكسيم جوركى وتعد هذه الرواية من أجمل ما كتب عن الأم فى الأدب العالمي، ويعتمد عليها فى دراسة الأدب الروسي، وقد صدرت هذه الرواية، فى عام 1907م، وحولت فيما بعد إلى مسرحية تحمل نفس الاسم، وقد حاول جوركى فى هذه الرواية تصوير حالة البؤس والفقر التي كانت تعم روسيا مبرزاً دور الأم التي مثلت فى الرواية رمز الثورة، وتبدأ أحداثها بالأب القاسى الشرير الذي يعامل زوجته وابنه والمجتمع المحيط به معاملة سيئة تتصف بالفظاظة والغلظة والعدوانية، ويموت الزوج مخلفاً زوجة وابنه «بول» الذي حاول تقليد تصرفات أبيه وسلوكياته السيئة من شرب الخمر وإساءة معاملة أمه التي تستنجد به قائلة: «أنت بشكل خاص يجب ألا تقرب الخمر، فقد شرب والدك عنك، وأذاقنى كؤوس العذاب، فترفق أنت بى!». وينشأ بول فى رعايتها شاب مناضل فتكون أما له ولزملائه وتحمل راية النضال عنهم بعد الزج بهم فى السجن.
ثم نأتى لأولى النساء الحاصلات على جائزة نوبل فى الأدب عام 1926 وهى جراتسيا ديليدا والتي نشرت رواية «الأم» فى كتاب عام 1929 فى مدينة ميلانو، وتم تنفيذ الرواية وإخراجها فى فيلمين الأول عام 1954 بعنوان «الممنوع»، والثانى بعنوان «الأم» عام 2014، وقد كتب أحد القراء الإيطاليين يقول: «لو كان لى أن أعيد صياغة عنوان الرواية بأسلوب ديليدا نفسها لسميتها«روح فى مهب الريح» ففى الرواية يدور كل أمر حول روح لا تستطيع أن تبقى هادئة صامتة، يمثل كل شىء فيها الرعب بمختلف أشكاله، وتساءلت صحفية إيطالية» ماذا يميز هذه الأم؟ إن ما يميزها هو مقدرتها الفائقة على الدخول فى أعماق الواقع، لتصوره باسم الحقيقة، لا يخفى عليها شيء، كما لو أنها تعيش حياة متواصلة حاضرة فى كل مكان، إن حياتها صلاة مستمرة، قائمة على الاهتمام المطلق بحياة ابنها».
أما رواية «والدة» للكاتب الفرنسى فرنسوا مورياك، فتقدم نموذجاً مختلفاً للأم، فالأم هذه المرة تسيطر عليها نوازع التملك والأنانية فى تربية ابنها الوحيد لدرجة أنها تدمر شخصيته، وتفقده ذاته التي لم يحاول تحقيقها إلا فى سن الخمسين من عمره، عندما يقابل فتاة حسنة الصفات فيحبها، ويتزوجها رغم معارضة الأم. وتعامل الأم الفتاة معاملة سيئة بعد الزواج الذي لم يدم طويلاً بسبب وفاة الفتاة، التي خشيت الأم أن تستحوذ على الابن، وظنت الأم أنها بذلك سيرجع الابن إليها وتستحوذ عليه مرة أخرى، لكن روح الزوجة الشابة بعد وفاتها تحيط بالابن وتلهمه قوة جديدة تجعله يتخلص من سيطرة أمه عليه، ليجد ذاته فى اللحظة التي تشعر فيها الأم بأن ابنها أصبح شخصية مستقلة عنها بفضل ارتباطه بروح زوجته، وتبدأ هى فى فقدان شهيتها للحياة وتعلقها بابنها، وهنا نرى نموذجاً للأم المتسلطة التي تظن أنها تعطى الابن كل شيء فى حين أنها تفقده كل شىء حتى ذاته.
وننتقل إلى رواية الأم، للكاتبة الأمريكية بيرل باك، وهى أفضل رواياتها تأثيراً فى النفس وحصلت بسببهاعلى جائزة نوبل فى الآداب عام 1938م. وتصور بيرل باك فى هذه الرواية حياة الأم الفلاحة الراضية بكل شيء فى حياتها، رغم ظروف الفقر والقهر التي تحيط بأسرتها، وعلى الجانب المقابل يقابلنا الزوج الساخط على حظه من الحياة لدرجة أنه يهرب ويترك أمه وزوجته وأولاده بلا عائل، وتعيش الأم الزوجة فى كذبة من اختراعها بأن زوجها سافر إلى بلدة بعيدة لأنه وجد عملاً أفضل، وتتوالى الأحداث.
باولا
وبفيض من الحنين وعاطفة الأمومة، كتبت إيزابيل الليندى، روايتها «باولا»، والعمل هو عبارة عن سيرة ذاتية تتحدث فيها الليندى عن ابنتها «باولا»، الراقدة على فراش المرض، والتي توفيت بعد صراع مع الألم والوجع، وتحكى الرواية عن تلك المشاعر القاسية التي اعترت الأم، وهى تشهد موت فلذة كبدها، وكيف أنها كانت على استعداد لأن تضحى بنفسها فى سبيل أن تشفى، وقد بدأت الليندى كتابة الرواية فى المستشفى أثناء مرض ابنتها وحتى لحظة الوفاة، وتحكى فى العمل عن مواجهة الفقد بسرد تفاصيل حياة أسلافها، ومن ثم حياتها هى.
أم محفوظ بين السطور
حظيت الأم عند الأديب الكبير نجيب محفوظ بمكانة بالغة الأهمية؛ حيث يقول: «لعبت أمى دوراً إيجابياً فى تشكيل شخصيتي، وتحديد مسارى الأدبى، رغم أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، فلقد علمتنى الحياة؛ كانت مخزناً للثقافة الشعبية؛ دائماً ما تأخذنى معها فى زيارتها للمتاحف ومشاهدة الآثار الإسلامية والقبطية دون فرق، وأنا طفل صغير بعد - 8 سنوات -، فضلاً عن غرامها بسماع الأغانى القديمة، وكانت علاقتى بها أوثق من علاقتى بأبى، نظراً لأننى لازمتها وأقمت معها، وهى التي امتد عمرها حتى تجاوزت المئة».
فقد جاءت الأم فى روايات نجيب محفوظ عظيمة فى تلك الأشياء الصغيرة التي تقوم بها فكانت قوية فى ضعفها، قوية فى صبرها. بل رمزاً لثبات القيم ولمّ الشمل، تماماً مثل أمينة التي عاشت حياة قاسية فى ظلّ والد مستبد كالسيّد أحمد عبد الجواد «فى ثلاثية محفوظ» وهى سلسلة مكونة من ثلاث روايات أدبية وهى بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957)
وكانت الأم فى رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ؛ النموذج البديل عن صورة الأب الغائب، وتحملت أعباء الأبناء بصلابة تتماهى مع الحب.
فى إبداع السحار
ونجد نفس نموذج الأم فى رواية الشارع الجديد للأديب عبد الحميد جودة السحار، الذي رصد كفاح الأم من تنظيم الأسرة، وتربية الأولاد، وتدبير مصاريف البيت، فجعل من الأم شخصية صارمة وثابتة، وذات ثقة فى نفسها، لا تتزلزل قدمها فى الأوقات الصعبة من القيم الخلقية، فهى دائماً تنصح أولادها بالخير، وتسكن زوجها على متاعب يواجهها فى حياته من ضياع التجارة أو خسارة مالية.
وجاءت رواية أم العروسة لتسلط الضوء على الأم فهى بطل رواية عبد الحميد جودة السحار وليست جزءا منها فحسب فهى تدور حول أسرة مصرية عادية مكونة من أب(الأستاذ حسين) وأم (الست زينب) وأربعة من البنات (أحلام ونبيلة وسوسن وهالة) وثلاثة من الأبناء (سامى ومراد وعاطف) فى حقبة الستينيات
فى الجزء الأول من القصة وهى رواية أم العروسة تتم خطبة الأبنة الكبرى أحلام الى جلال شقيق إحدى صديقاتها وتدور أحداث القصة وجميع ما فيها من مواقف مؤلمة ومضحكة حول محاولات الأب المجهد مادياً للوفاء بالتزاماته فيما يلزم ابنته من احتياجات لعش الزوجية وتخطيط حفل الزفاف فى منزله بالإضافة إلى احتياجات أسرته العادية من مأكل وملبس ومصاريف تعاليم وبالطبع إرضاء حرص زوجته الشديد على المحافظة على مظهرها ومظهر العائلة فالست زينب زوجة الأستاذ حسين الموظف الحكومى وأم الأبناء السبعة والتي اقترب سنها من الأربعين فى أحداث هذه الرواية حريصة على أناقتها وأناقة زوجها وأبنائها أثناء هذه الدراما الكوميدية ظهرت شخصية جديدة وهى شخصية شفيق ابن خالة جلال والذي يتقدم للزواج من الابنة الصغرى وتعهده بأن يتحمل.
العذراء والشعر الأبيض
وتبقى رائعة إحسان عبد القدوس» العذراء والشعر الأبيض» حالة مركبة شديدة التعقيد تحوى بين سطورها قدرا كبيرا من النضج والجرأة والقدرة على المواجهة، «دولت» أو الشخصية النسائية الأولى فى قصة عبد القدوس شخصية شديدة الأنانية، رغبتها الجنونية فى الإنجاب تحولت إلى عقدة نقص بعد أن تأكدت أنها عاقر، فتجدها على عكس ما قد تصل إليه امرأة على هذه الحالة من اليأس، تحرك كل ما حولها تبعا لأغراضها وتتملكها شهوة امتلاك كل شىء بأى طريقة وبأى ثمن..
دولت فى قصة إحسان عبدالقدوس لم تحب أحدا سوى نفسها التي يمكنك أن تصفها بأنها نفس غير سوية، ومن هنا تأتى جرأة إحسان عبدالقدوس الذي عرض الحالة بكل جوانبها وارتضى أن يواجه المجتمع فى سطوره بنموذج شخصية مثل دولت يوجد منها بين صفوفه الكثير.أما الفيلم فتجد قصة أخرى كتبتها كوثر هيكل غير التي نسجها إحسان تماما، تجد دولت امرأة حنونة جدا تريد بشدة أن تنجب ولكن بشكل سوى مقبول،فتقوم بتبنى طفلة بثينة – شريهان وتغدق عليها بكل ماتملك من الحنان والرعاية …انها صورة أخرى أيضا للأم التي لم تنجب.