
د.داليا المتبولى
من نهر النيل إلى نهر السين حين تحدّثت القاهرة بلغة الحضارة
فى مساء تتدلّى فيه أرواحُ التاريخ من المشربيات، وتعبر النسائمُ القديمة من بين شقوق الخشب المُطعّم، جلس وجهان من عالمين على مقعدٍ صغير فى خان الخليلى، وابتسمت القاهرة كأنها تستقبل ضيفًا لا بصفته، بل بروحه. جلس الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على كرسيٍ متواضعٍ أمام كوب شاى وقلب مفتوح، وإلى جواره الرئيس عبد الفتاح السيسى، بصمته الهادئ ونظرته التى تعى قيمة اللحظة، كأنه يُصغى إلى المدينة وهى تحكى عن نفسها.
لم تكن تلك الصورة مجرّد لقطة عابرة، ولا زيارة مجاملة من رئيس دولة كبرى إلى سوق شرقى قديم، بل كانت بيانًا حضاريًا صامتًا، رسالة مفادها أن العالم يحتاج اليوم إلى أن يعيد اكتشاف بعضه البعض من قلب الأزقة، لا من خلف المكاتب أو قاعات المؤتمرات. كانت القاهرة فى تلك اللحظة تهمس للعالم بأن الحضارة لا تُبنى فوق الإسفلت فقط، بل فوق القلوب، وفى الأزقة المضمّخة برائحة الكُحل والنعناع.
حين مشى الرئيسان فى درب خان الخليلى، كانت الأرض تفرش لهما ذاكرتها، وكأنهما لا يمران بجانب المحلات بل فى قلب الحكايات. هناك، حيث يغفو التاريخ على أرفف النحاس، وتصحو الأرواح فى صوت الناى، لم تكن مصر تستعرض، بل تكشف عن ذاتها، عن تلك الذات التى عرفت كيف تتجمّل بالبساطة، وتُربّى أبناءها على أن الغنى حضارة، لا مال.
إن لحظة وقوف الرئيس السيسى إلى جوار نظيره الفرنسى وسط العامة، لم تكن دبلوماسية بقدر ما كانت مشهداً دراميًا تُخرجه الحياة. كانت مصر تقول: ها أنا كما أنا، لا أتنكر لملامحى، ولا أخجل من شوارعى القديمة، بل أفتخر بها، لأنها تحفظ تاريخًا أعمق من الأنهار.
وفى صمت الرئيس السيسى، حين ترك للمكان أن يتكلم، كانت الرسالة الأوضح: أن القادة الكبار لا يصنعون الضجيج، بل يصنعون المعنى. كان فى جلسته تلك يُعيد تعريف الزعامة، لا كسلطة، بل كفهم لروح البلد، ولغة ناسه، ولحن شوارعه.
الصورة التى جمعت السيسى وماكرون لم تكن صورة للعدسات، بل مرآة لعالم متعب، أنهكته الحروب وسقوط القيم، فجاءت مصر لتقول: من هنا تبدأ الرحمة، من مقهى بسيط، من ابتسامة طفلة، من بائع يفرش حلمه بجوار الخبز والنعناع.
لقد قال الرئيس السيسى، دون خطب أو بيانات، ما عجزت عنه المؤتمرات: أن مصر قادرة على أن تُحدث فرقًا ليس فقط عبر الجغرافيا، بل من خلال هويتها وروحها وذاكرتها، فى لحظة واحدة، علّم فخامته العالم كيف تتقدم مصر دون أن تتخلى عن ناسها أو تُجمل صورتها.
وها هو ماكرون، القادم من بلاد الأنوار، يرى نورًا آخر لمصر، لا ينبع من الكهرباء، بل من دفء الروح، ومن تداخل الأزمنة بين الأمس واليوم. لم يرَ مصر من وراء موكب رسمى، بل رآها تمشى بين الناس، تتبادل التحية مع الباعة، وتغنى مع العود فى ليل القاهرة.
هكذا كانت الرسالة الأعمق: أن مصر ما زالت هنا، تحفظ دورها، وتقدّمه كما هو، فى الشوارع، فى وجوه الناس، فى تلك البسمة العميقة التى لا تعرف التكلّف. لم تكن بحاجة لأن تصرخ لتُسمع، أو تُجمّل لتنال الإعجاب.
وفى هذه اللحظة تحديدًا، فهم العالم أن مصر ليست فقط وطنًا له نشيد وحدود، بل وطن له قلب، وله موسيقى خاصة، وله كرامة تُحسّ فى العيون.
وهكذا انطلقت الرسالة، لا إلى فرنسا وحدها، بل إلى كل العالم: أن مصر حين تُقرّر أن تحكى، فإنها لا تحتاج إلا مقهى صغيرًا، وقائدًا كبيرًا، وزائرًا يُحسن الإصغاء.
لكن خلف هذه الصورة، كانت هناك رسالة أعمق لا تُقال بالكلمات: إنّ مصر، فى زمنٍ تضطرب فيه المدن، ما تزال دار أمنٍ وسلام. أن يسير رئيسُ دولة كبرى بين أهلها دون حواجز، ويجلس فى سوقها القديم بين الناس، فذلك ليس تفصيلًا بروتوكوليًّا، بل شهادة حيّة على وطنٍ لم ينكسر رغم العواصف.
هنا لا يُصنع الأمن من حديد، بل من محبة الناس، ومن ثقة الأرض بأهلها، ومن تاريخٍ خُلّد فى كتاب الله العزيز: “فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ” [يوسف: 99].