الأحد 6 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

روزاليوسف فى بيوتهن

أسر شهيدات الرزق الحلال.. تروى قصص النجاح والكفاح واللحظات الأخيرة

حاورهم - محمود هيكل   



لم تتوانَ الدولة المصرية، لحظة فى تقديم الدعم الكامل والمساندة الحقيقية لأسر ضحايا الحادث المروع الذى وقع على الطريق الإقليمى بمحافظة المنوفية، وراح ضحيته 18 فتاة، وسائق السيارة، وإصابة 3 آخرين، من قرية كفر السنابسة، وعلى الفور وجه السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، بصرف تعويضات لأسر الضحايا والمصابين.

وفى تحرك سريع تنفيذًا لتكليفات الرئيس بدأت وزارتا العمل والتضامن الاجتماعى، بصرف مبلغ 500 ألف جنيه لأسرة كل ضحية، فضلًا عن 70 ألف جنيه لكل حالة إصابة، وقرر الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، إطلاق أسماء الشهداء الـ19 على المبانى الحكومية والشوارع بقرية كفر السنابسة تخليدًا لذكراهم، وإعفاء كامل لأسر الضحايا من المصروفات الدراسية، كما أعد الديوان العام لمحافظة المنوفية، سرادق عزاء كبيرا، وكان المحافظ وعدد من القيادات التنفيذية والهلال الأحمر فى استقبال المعزين.

وأعرب أهالى الضحايا، عن شكرهم للقيادة السياسية، والسيدة انتصار السيسى قرينة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، لتقديمها واجب العزاء، وتكليفها الهلال الأحمر، بحضور العزاء، وزيارة المصابين فى المستشفيات والاطمئنان عليهم وتقديم الدعم النفسى، والمادى، والمعنوى، لأسر الضحايا والمصابين.

وبأجساد أنهكها الحزن، وعيون لم تتوقف عن ظرف الدموع، تروى أسر الضحايا لـ»جريدة روزاليوسف» رحلات كفاح سطرها أبناؤهم الذين حصدهم الموت فى عمر الزهور، فى حادث مروع نتيجة رعونة سائق «مخدر»، لم تشهد مثله محافظة المنوفية من قبل، لكن ورغم كل هذا الحزن، إلا أن الصبر والسلوان يستحوذان عليهم جميعًا، مرددين على ألسنتهم دائمًا كلمة: «الحمد لله».

 

«ملك» استقبلتها أسرتها جثة هامدة بدلًا من زيارة العريس

البداية كانت من منزل ملك عربى فوزى، صاحبة الـ18 عامًا، التى كانت تساعد والدها المريض بالقدم السكرى فى علاجه، وتتحمل مسئولية الأسرة نيابة عنه، لكن فاجأها الموت وهى عائدة من عملها، لتترك الأسرة تتجرع مرارة الألم والفقدان، خاصةً أنها كانت العائل لهم.

 

عربى مبروك، والد «ملك»، أكد أنها كانت تعمل من أجل مساعدته منذ أن كانت فى سن الثانية عشرة، بجوار دراستها، وقد حصلت على دبلوم تجارة، وكانت تعمل فى محطة العنب مشرفة على خط الإنتاج ومسئولة عن التعبئة والتغليف، لتتمكن من مساعدته فى علاجه، مشيرًا إلى أنها كانت تكد وتتعب لتوفير جميع متطلبات البيت. 

«ملك»، رغم صغر سنها، إلا أنها كانت بمثابة رب الأسرة، فكانت سندًا له فى الحياة، وأمله فى تربية أشقائها، كانت مرنة، خفيفة الظل، وتتمتع بالقبول بين جميع زملائها.

«الأب المكلوم»، روى أنه بالرغم من أن ملك لم تكن أكبر أشقائها، إلا أنها احتلت منزلة الأب والأم فى البيت، وكانت تراعى الجميع وتسعى لإرضائهم، وتوفر لهم – بقدر المستطاع – ما يحتاجونه من مقومات الحياة، وذلك من أجرتها اليومية التى كانت تعمل بها، فلم تبخل علينا يومًا بما كانت تحصّله من أموال.

ويحكى «عربى»، عن آخر لقاء جمعه بابنته، قائلًا: «فى صباح يوم وفاتها، أيقظتنى من نومى وهى ذاهبة إلى العمل، وقبّلتنى من جبينى، وسألتنى: «محتاج حاجة يا بابا؟»، ورديت عليها: «خدى بالك من نفسك»، ثم ذهبت إلى عملها، وفى حوالى الساعة التاسعة صباحًا، سمعنا عن وقوع حادث على الطريق الإقليمى، وفجأة أخبرونا أن الحادث يخص السيارة التى كانت تُقل بناتنا، فهرعنا إلى المستشفيات، وهناك تعرفنا على جثثهن داخل الثلاجات».

وبصوت منخفض، وعيون مملوءة بالدموع تنظر إلى الأرض، قال والد ملك: «فى صباح اليوم نفسه الذى توفيت فيه، كنا ننتظر ونجهز البيت لاستقبال عريسها وأسرته، الذين كانوا قادمين مساءً لطلب يدها، لكننا استقبلناها جثة هامدة بدلًا من استقبال العريس».

 

شيماء حققت حلمها ودخلت الهندسة فحصدها الموت قبل التخرج

 

بعيون تفيض منها الدموع، وبصوت حزين مضطرب، قال الحاج رمضان عبدالحميد خليل، والد شيماء رمضان ـ الطالبة بكلية الهندسة، وإحدى ضحايا حادث الطريق الإقليمى بالمنوفية: «إنها كانت متفوقة طوال مراحل الدراسة، وكانت تحلم بأن تصبح مهندسة، وقد حصلت على أعلى مجموع فى الشهادة الإعدادية، لكنها رفضت دخول الثانوية العامة حتى لا تُثقل كاهله بمصاريف الدراسة».

والد شيماء، استطرد قائلًا: «إنها قررت الالتحاق بالدبلوم الصناعى، وتفوقت فيه بصورة كبيرة، حتى تم تكريمها من قبل المحافظ، ثم التحقت بالمعهد الفنى للبصريات فى القاهرة، وحصلت منه على مجموع 99%، ما أهلها للالتحاق بكلية الهندسة بجامعة المنوفية، لتحقق بذلك حلمها».. «شيماء»، كانت تعمل فى محطة تعبئة وتغليف العنب، لتتمكن من الإنفاق على تعليمها بكلية الهندسة، وفق تصريحات والدها، وقبل وقوع الحادث، ساورها شعور بالقلق، فاتصلت بها يوم الخميس – أى قبل الحادث بيوم – وطلبت منها عدم الذهاب إلى المحطة يوم الجمعة، لكنها رفضت، وذهبت إلى الموت، فكانت تلك مكالمة الوداع، دون أن أدرى.

 

مروة عائل الأسرة.. رفضت الارتباط لتربية أشقائها

 

«كانت تساعدنى فى تربية أشقائها الصغار»، بهذه الكلمات بدأ أشرف إنسان خليل، والد مروة، إحدى ضحايا حادث الطريق الإقليمى.

«مروة»، كانت تحلم ببناء منزلهم الذى ما زال قائمًا حتى الآن بالطوب اللبن المصنوع من الطين، عملت فى تغليف العنب لتُعينه على أعباء الحياة، إذ يعانى من مرض الغضروف وغير منتظم فى أى عمل، وكانت هى العائل الوحيد للأسرة، والبنت، والأخت، والسند لأشقائها، تشاركه الرأى، وتحاوره فى احتياجات إخوتها الصغار الثلاثة.

واستكمل «الأب» حديثه: «مروة، البالغة من العمر 20 عامًا، خرجت للعمل وهى فى سن الحادية عشرة، وتحملت مسئولية نفسها وأشقائها، ورفضت الارتباط أكثر من مرة لتكمل تعليمها وتنفق على البيت، ومع ذلك، تفوقت فى دراستها، فالتحقت بمعهد فنى، ثم قامت بعمل معادلة لتدخل كلية الهندسة، وكانت تحلم بأن تصبح مهندسة، لكن الموت كان أقرب من حلمها».

 

أسماء وسمر أسماء كانت تكافح لتشترى جهاز «الفرح» وسمر تساعد فى احتياجات المنزل

 

فَقَد اثنتين من بناته فى الحادث المروع، لكنه ما زال يقف شامخًا، يتحلى بالصبر، وتبدو عليه علامات الرضا بقضاء الله، خالد مصطفى قنديل، والد الضحيتين أسماء وسمر، يقول إن بناته كن فى عمر الزهور، لكن الموت لم يمهلهن ليستمتعن بالحياة.. «أسماء»، البالغة من العمر 20 عامًا، كانت تعمل فى محطة تعبئة وتغليف العنب، لتشترى متطلبات زفافها، وتخفف عنه عبء تجهيزها، نظرًا لإصابته بالمرض وعدم قدرته على مواصلة العمل يوميًا، كانت تشعر به وتقول له دائمًا: «أنا معاك يا بابا وجنبك، ومش هسيبك».

ورغم حزنه العميق على فراق ابنتَيه، إلا أنه راضٍ بقضاء الله، متابعًا: «إن سمر ابنته الثانية، كانت تعمل مع شقيقتها أسماء لتساعده فى تربية أشقائها الصغار، وكانت تعطيه أجرها بالكامل دون أن يطلب منها»، وتقول له: «اشترى اللى أنت عايزه يا بابا».

 وعن لحظة الخبر، قال: «وقع خبر وفاتهما على رأسى كالصاعقة، لم أستوعب حينها أنهما رحلتا معًا فى لحظة واحدة، لم أحتج يومًا لأحد، فقد كانت بناتى هنّ من يساعدننى على المعيشة».

 

شيماء يحيى استعدت لخطبتها يوم وفاتها

 

يحيى فوزى مبروك، والد الطفلتين شيماء وجنا، قال: «أنا أب فقد زهرتين من الجنة، شيماء، 20 عامًا، كانت أكبر أشقائها، بينما جنا، 14 عامًا، نجحت هذا العام فى الصف الثالث الإعدادى بمجموع كبير، وظهرت نتيجتها بعد وفاتها بيوم واحد فقط.

بدأت «شيماء» رحلة كفاحها معه وهى فى الصف الثانى الإعدادى، وقالت له: «يا بابا، أنت بتشتغل على دراعك، وأنا هشتغل وأساعدك علشان نربى إخواتى الصغيرين»، وبالفعل تحملت المسئولية، وعلى الرغم من عملها، كانت متفوقة فى دراستها.

الأب المكلوم، تابع: «لا أملك من الدنيا غير البيت الذى أسكن فيه، وكنا نعيش فيه بدون تشطيب، لكن شيماء ظلت تعمل وتعطينى أجرها لسنوات، حتى تمكنا معًا من تشطيب وتجهيز البيت، وبعدما بلغت جنا 14 سنة، قررت أن تشارك شقيقتها رحلة الكفاح، فكانتا تعملان بمحطة تغليف العنب وتمنحانى أجورهما».. وبعيون تسقط منها الدموع، أضاف: «كنت أحلم بأن أراهن فى بيت الزوجية، لكن الموت قضى على هذا الحلم، شيماء أيقظتنى يوم وفاتها، قبّلتنى من وجهى وكأنها تودعنى، أما جنا فكانت تحفظ 6 أجزاء من القرآن الكريم، وكانت تسعى لحفظه كاملًا».

 

ميادة حجزت فستان العُرس والكوافير

 

 

ميادة يحيى نصر، كانت تستعد لزفافها بعد شهر واحد فقط، لكن الموت كان أسرع، فتركت غصة فى قلوب أسرتها وأقاربها وأصدقائها، إذ كانت قد حجزت فستان الزفاف والكوافير، وسطرت بيدها أسماء صديقاتها اللواتى كانت تنوى أن ترسل لهن دعوات الفرح، لكن الجميع استيقظ على خبر وفاتها، فوقع عليهم كالصاعقة.

أمير نصر، عم ميادة، أكد أن ابنة شقيقه كانت تعمل لتساعد والدها فى سداد أقساط جهاز زفافها، بعد أن خطبت وتم تحديد موعد الزفاف فى 1 أغسطس المقبل.

كان والدها قد اقترض مبلغ 50 ألف جنيه من جمعية كونها مع أصدقائه، وبدأ فى شراء الأدوات الكهربائية والمنزلية، ويسدد باقى الأقساط شهريًا.

«ميادة»، تحتل مكانة خاصة فى قلوب والديها، إذ كانت البنت الوحيدة على ثلاثة أشقاء ذكور، وهى أكبرهم، فكان الجميع يحبها، فهى على خُلق عالٍ، وهادئة الطباع، راقية الأسلوب، ووالدها يعيشان الآن حالة من الصدمة الشديدة بسبب فقدان ابنتهم.

 

الشقيقتان آية توفاها الله.. وآيات تُصارع الموت فى المستشفى

 

يروى الحاج مرزوق إمبالى خليل، جد الشقيقتين آية وآيات زغلول مصطفى، أن آية توفيت نتيجة الحادث الأليم، بينما أختها آيات ترقد الآن على أجهزة العناية المركزة بالمستشفى، وقد خضعت لعملية جراحية، وهى فى وضع حرج.

كانت الفتاتان، تعملان لمساعدة والدهما فى مواجهة صعوبات الحياة، وشاء الله أن تُتوفى واحدة، وتبقى الأخرى على سرير الموت تُصارع الألم.. ويضيف الجد: «آية» التى توفيت، كانت طالبة فى الفرقة الرابعة بكلية التربية بجامعة المنوفية، وتمت خطبتها فى عيد الأضحى الماضى، ومجتهدة جدًا، ومع ذلك كانت تعمل لمساعدة والدها على تجهيزها».. ما آيات، فهى طالبة فى الصف الثالث الإعدادى، وكانت تعمل أيضًا، وتحرص على إعطاء والدها أجرها بالكامل لتوفير احتياجات أشقائها.

 

هنا ورنا من تفصيل فستانها ليوم زفاف شقيقتها إلى الكفن

 

“هنا ورنا” توأمان كانتا تعملان فى نفس محطة تغليف العنب، وفى يوم الحادث، لم تركب رنا نفس السيارة التى استقلّتها شقيقتها، إذ كانت الاثنتان ذاهبتين للعمل، وفى اللحظة الأخيرة، قررت «هنا» أن تركب السيارة الأولى بدلًا من الثانية، وكأن الموت ناداها.

والدها، مشرف علام، قال: «هنا كانت تعمل لتساعدنى فى تجهيز جهاز شقيقتها المخطوبة، التى سيُقام زفافها فى شهر سبتمبر المقبل، فهى كانت السند والعون فى رحلة كفاحى لتربية أبنائى، ظهرى انكسر برحيلها».

وبعد تنهيدة مؤلمة، أضاف: قالت لى ليلة وفاتها «هروح بكرة الشغل يا بابا، وأرجع أفصل الفستان علشان فرح أختى، لكنها عادت جثة هامدة، وارتدت الكفن الأبيض، وقمنا بزفافها إلى القبر، أخذت معها قطعة من قلبى، لكنى أشكر الله أنه أبقى لى رنا».