ميلاد اقتصادى جديد

رضا داود
لم تكن 23 يوليو 1952 كغيرها من ثورات أو هبات المصريين، فقد انطلقت ثورة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر لتعلن نهاية عهد الملكية وبداية مرحلة جديدة من تاريخ مصر الحديث، فلم تكن هذه الثورة مجرد تغيير سياسى أو تحول فى نظام الحكم بل كانت مشروعًا وطنيًا شاملًا امتد تأثيره إلى جميع مناحى الحياة وعلى رأسها الاقتصاد المصرى.
فى هذا التقرير، نقدم قراءة فى أبرز المحاور الاقتصادية التى تبنتها الثورة، وساهمت فى صياغة ملامح الاقتصاد الحديث ووضع أسس النهضة الصناعية والتنموية.
كانت مصر قبل ثورة يوليو دولة زراعية تعتمد على تصدير المحاصيل التقليدية وفى مقدمتها القطن وكان النظام الزراعى قائمًا على الإقطاع، حيث يمتلك عدد قليل من كبار الملاك المساحات الشاسعة، بينما يعمل الملايين من الفلاحين تحت ظروف قاسية بلا ضمانات أو حقوق، بل ولم تكن الصناعة تمثل سوى نسبة ضئيلة من الناتج القومى، وكانت البلاد تعتمد على الاستيراد لتلبية أغلب احتياجاتها الصناعية.
بعد الثورة أدركت الدولة أن التحول من الاقتصاد الزراعى إلى الاقتصاد الصناعى السبيل الأمثل إلى النهضة الحقيقية، لذا تبنت خطة للتنمية الصناعية بدأت بإنشاء مشروعات كبرى، مثل: مصنع الحديد والصلب فى حلوان ومصانع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى ومصانع الأسمدة فى أسوان، ليسهم هذا التحول فى خلق فرص عمل جديدة وتقليل الاعتماد على الخارج ورفع كفاءة الاقتصاد الوطنى، فضلًا عن ظهور طبقة عاملة جديدة لها دور محورى فى التنمية.
تأميم الشركات الكبرى من سيطرة الأجانب إلى ملكية الشعب
كان جزء كبير من الاقتصاد المصرى قبل الثورة خاضعًا لسيطرة الأجانب، خاصة فى مجالات البنوك والتأمين والنقل والصناعة، حيث كانت الأرباح تتحول إلى الخارج ولا يستفيد منها الاقتصاد المحلى، حتى جاءت ثورة يوليو لتضع حدًا لهذه التبعية فبدأت بقرارات حاسمة لتأميم الشركات الكبرى، وعلى رأسها تأميم قناة السويس عام 1956، وهو القرار الذى شكّل نقطة تحول كبرى فى مسار السيادة الاقتصادية.
تبع ذلك تأميم العديد من الشركات والمصانع المملوكة للأجانب أو للرأسمالية المصرية المرتبطة بالمصالح الأجنبية، وأصبحت ملكية هذه الكيانات تعود إلى الدولة المصرية التى وجهتها لخدمة أهداف التنمية، وكان هدف التأميم ليس فقط التخلص من السيطرة الأجنبية بل ضمان أن تعمل مفاصل الاقتصاد لخدمة الشعب وليس لخدمة أقلية أو دول أخرى، وقد ساعد هذا الإجراء فى توطيد دعائم الاقتصاد الوطنى وتوفير مصادر تمويل ذاتية للمشروعات القومية.
القطاع العام الصناعى قلاع تنموية بأيدٍ مصرية
فى إطار بناء اقتصاد وطنى مستقل، أسست الدولة ما يعرف بالقطاع العام الصناعى وهو مجموعة من الشركات والمصانع التى أنشأتها الحكومة لتكون نواة لاقتصاد إنتاجى متكامل، ومن أبرز هذه المشروعات شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج التى أصبحت من أكبر قلاع النسيج فى المنطقة، وشركة النصر لصناعة السيارات التى مثلت أول محاولة حقيقية لتصنيع السيارات فى مصر، وشركة كيما للأسمدة فى أسوان التى دعمت القطاع الزراعى.
ونجحت هذه الكيانات فى المساهمة فى تشغيل عشرات الآلاف من العمال والمهندسين والفنيين ووفرت العديد من السلع الأساسية ورفعت مساهمة الصناعة فى الناتج القومى، وقد مثلت هذه الشركات صورة لمفهوم التنمية الشاملة، حيث لم تكن مجرد منشآت اقتصادية بل كانت رمزًا للسيادة والإنتاج والعمل الوطنى وأصبح القطاع العام أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد المصرى فى العقود التالية.
التعليم الفنى والتأهيل الصناعى.. صناعة الإنسان قبل الآلة
بناء المصانع لم يكن وحده كافيًا لتحقيق النهضة الصناعية بل كان لا بد من إعداد العنصر البشرى القادر على تشغيل هذه المصانع وتطويرها، ومن هنا أولت الثورة اهتمامًا خاصًا بالتعليم الفنى والصناعى، وأنشأت العديد من المدارس الفنية والمعاهد الصناعية فى مختلف المحافظات، وتم تطوير مناهج التعليم الفنى لتواكب احتياجات المصانع الجديدة وتخدم خطط الدولة فى التصنيع.
وكان التركيز على تخصصات، مثل: الكهرباء والميكانيكا والإلكترونيات والغزل والنسيج والكيماويات وغيرها مما يتصل بالأنشطة الصناعية المختلفة، وساهم هذا التوجه فى إعداد جيل جديد من العمالة المدربة القادرة على المشاركة فى العملية الإنتاجية بكفاءة وأصبحت هذه العمالة تمثل العمود الفقرى للصناعة الوطنية، وكان لهذا النظام دور كبير فى تقليل البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال إتاحة فرص العمل والتدريب.
البنية التحتية والاستقلال الاقتصادى.. من التبعية إلى الاكتفاء
أدركت ثورة يوليو أن الصناعة لا يمكن أن تزدهر دون وجود بنية تحتية قوية تخدمها، لذا تم تنفيذ عدد من المشروعات القومية الكبرى التى دعمت البنية التحتية بشكل غير مسبوق، وكان على رأس هذه المشروعات السد العالى الذى وفر الطاقة الكهربائية اللازمة للمصانع وحمى مصر من تقلبات الفيضانات، كما وفّر مياه الرى اللازمة للتوسع الزراعى.
أيضًا تم إنشاء شبكة واسعة من الطرق والموانئ والسكك الحديدية لتسهيل نقل المواد الخام والمنتجات الصناعية، وتم بناء محطات كهرباء جديدة وتوسيع شبكة الاتصالات لخدمة متطلبات الصناعة، الأمر الذى ساعد فى تهيئة المناخ المناسب للإنتاج الصناعى المحلى وتقليل الحاجة إلى الاستيراد، وكان خطوة كبيرة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتى وتعزيز الاستقلال الاقتصادى.
كما حرصت الدولة على دعم الإنتاج المحلى من السلع الاستراتيجية، مثل: الغذاء والأدوية والمستلزمات الصناعية الأساسية، ما أدى إلى تقليل الضغط على ميزان المدفوعات وتخفيف التبعية للأسواق الخارجية.
ورغم ما واجهته مصر من تحديات اقتصادية فى العقود التالية، فإن إرث ثورة يوليو فى المجال الاقتصادى لا يزال قائمًا، فقد وضعت أسس بناء اقتصاد وطنى مستقل يقوم على التصنيع والعمل والتعليم والإنتاج، بل وأعادت الثورة الاعتبار للطبقة العاملة، ووسعت من قاعدة المشاركة الاقتصادية وأنهت عصر السيطرة الأجنبية على مفاصل الاقتصاد، وبدأت مرحلة جديدة قوامها العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى.
ونجحت الثورة فى تحويل مصر من دولة زراعية تابعة إلى دولة تسعى للريادة الصناعية والتنمية الذاتية، ولا تزال آثار تلك المرحلة باقية فى البنية التحتية وفى بعض مؤسسات القطاع العام وفى الذاكرة الوطنية كمثال على الطموح والإرادة فى بناء اقتصاد قوى يليق بالشعب المصرى.