بداية بناء الجيش الوطنى الحديث

د. عمر علم الدين
لا يمكن أن تنطلق الثورات، إلا عندما تنتشر آفات المجتمعات، من رشوة ومحسوبية وظلم وخيانات، ومراعاة مصالح القلة المنتفعة على حساب الأغلبية الكادحة، وكانت بواعث ثورة 23 يوليو 1952، كثيرة، منها أيضًا تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى مصر، مما أحدث خللًا واضحًا فى بناء المجتمع، بين من يملك كل شىء ومن يعيش على لا شىء، على بقاع المحروسة الأجير يعمل لدى الباشا هو وأولاده ولقمته لا تقضى حاجته، الغنى يزداد غنى والفقير يمشى دون حذاء يحميه من حرارة الأرض، العدالة الاجتماعية معدومة وتراجعت النبرة الوطنية، وكانت أوضاع الجيش صعبة، فجاءت ثورة 23 يوليو 1952، كبداية حقيقية للجيش الوطنى المصرى الحديث، فالثورة وضعت الأسس لجيش وطنى مستقل ومتخصص، وأدّت إلى تطور ملحوظ فى التسليح الصناعى والعقيدة العسكرية، وكانت حرب أكتوبر هى الامتحان العملى الذى أثبت كفاءة المشروع.
فعندما انطلقت مجموعة من ضباط الجيش المصرى المعروفين بالـضباط الأحرار بقيادة اللواء محمد نجيب مدير سلاح الحدود وقتها، والرائد جمال عبد الناصر أحد المؤسسين الفعليين لتنظيم الضباط الأحرار وقائد عملية تنفيذ الثورة ميدانيًا بإزاحة الملك وحلّت الجمهورية محل الملكية، وتم إبعاد القوى السياسية القديمة عن المركز السياسى، وتم إنشاء المجلس الأعلى للثورة الذى تولى قيادة الدولة، واتخاذ إجراءات إصلاحية، فتم تنظيف القيادات من ولاءات النظام السابق وكان فى قلب هذا الإصلاح الجيش.
وكان الجيش المصرى قبل الثورة يعتمد على التسليح البريطانى ويعانى القيادة المنقوصة والمستوى المهنى المتدنى، كما ظهر ذلك فى هزيمة 1948 فى فلسطين، لكن بعد الثورة شهد الجيش تحولًا جذريًا، فقد فتح بابًا للتعاون مع الاتحاد السوفييتى، ونفذ عددًا من الصفقات أبرزها صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية عام 1955، التى زوّدت مصر بدبابات وطائرات MIG‑15، وغيرها من الأسلحة بصفقة قيمتها 83 مليون دولار.
ولعل هذا التحول رصدته الوثائق الرسمية الأمريكية عن تقييم الجيش المصرى بعد الثورة، والصفقة مع الاتحاد السوفييتى عام 1955، كما دخلت مصر رسميًا فى مشروع التصنيع الحربى الوطنى، عبر الهيئة العربية للتصنيع، وورش محلية لإنتاج بنادق مثل «حكيم» و«رشيد»، بالإضافة إلى تصاريح لتجميع دبابات ومعدات محلية.
إصلاح المؤسسة العسكرية لم يقتصر على التسليح، بل شمل بناء الكلية الحربية وأكاديميات متخصصة بشكلها الحالى لتخريج كوادر وطنية على أسس حديثة، بالإضافة لتطهير الجهاز العسكرى من القيادات القديمة وغير الوطنية، عبر مراحل التطهير والتعيينات الجديدة ضمن الضباط الأحرار، كما تم الاستفادة من التأثير السوفييتى فى التدريب والتخطيط الاستخباراتى والتكتيكى فى المدارس العسكرية حول العالم.
ولم تتوقف حركة الجيش، فخلال حرب 1956، رغم ذهاب الإنجليز، إلا أن الجيش اعتمد على معلومات قديمة وتشكيلات غير متوازنة ما استدعى مزيدًا من التحديث والتخطيط، وجاءت نكسة 1967، التى أدت لإعادة هيكلة شاملة للجيش، شملت التدريب وشراء أسلحة سوفييتية جديدة (T-62، BMP‑1) وتطوير فرق المدرعات، إلى أن أدرك الجيش قيمته وتولى أمره من نجح فى إظهار قوته الحقيقة.
فى حرب أكتوبر 1973، التى كانت تستند إلى قدرات تم تطويرها على مدار عقدين من توظيف التخطيط الاستراتيجى لفتح قناة السويس وتحطيم خط بارليف واستخدام تكتيكات مدرعة متطورة، كما كان القتال الجماعى بدعم دفاع جوى ودعم نارى منّسق، أدى للنجاح فى تحرير الأرض، ما أعاد الثقة إلى الجيش والمكانة الوطنية بيد مليون و٢٠٠ ألف مقاتل على الجبهة رافعين شعار بسم الله الله أكبر بسم الله بسم الله.. بسم الله أذن وكبر بسم الله بسم الله..نصرة لبلدنا بسم الله بسم الله.. بإيدين ولادنا بسم الله بسم الله.