زياد رحبانى موسيقار الأرواح الحُرة

هند سلامة
بقلب مثقل بالحزن وعينين غمرهما الدمع أكتب هذه السطور.. مع ما امتزجت به من غبطة وسرور عندما تذكرت يوم لقائى بالموسيقار الراحل زياد رحبانى، إثر مشاركته ضمن فعاليات الدورة الأولى لمهرجان «الجاز» بالقاهرة عام 2010، شاء حسن الحظ أن يكون لى معه لقاء دون شريك.. بعد أن تلقيت مكالمة هاتفية من أحد منظمى المهرجان تبلغنى بموافقة الرحبانى على إجراء الحوار.. مؤكدة أن هذه موافقة استثنائية لأنه رفض إجراء أى لقاءات صحفية؛ سر قلبى بهذا الخبر السعيد.. وشعرت يومها بمسئولية كبيرة تجاه هذه المقابلة.. مسئولية لقاء هذا الفنان الاستثنائى فى عالم الفن والموسيقى والمسرح ومسئولية أنه خصنى وحدى بهذا اللقاء.. توجهت بحماس شديد إلى حيث مقر إقامته بأحد فنادق وسط البلد، وغمرتنى مشاعر مختلطة بالسعادة والقلق.. استقبلنى الرجل بحفاوة شديدة وأعلن يومها فور لقائى مبتهجا: «أنت الوحيدة التى قبلت إجراء لقاء صحفى معها.. لأننى أحب “روزاليوسف”.. “روزاليوسف” ليست بالنسبة لى مجرد صحيفة بل تاريخ طويل من النضال.. هذه المجلة وهذه السيدة خاضت الكثير من المعارك السياسية الضخمة وكانت لها مواقف واضحة.. وكان لديها خط استثنائى بين المعارضة والمواءمة مع النظام».
الزيارة الأولى للقاهرة
كانت مفاجأة لى أن هذه هى الزيارة الأولى لزياد الرحبانى بالقاهرة؛ لم تكن تمت دعوته من قبل لإقامة حفلات فنية سواء بدار الأوبرا المصرية أو غيرها.. أصابتنى الدهشة من هذه المعلومة والتى أكدها قائلا: «للأسف هذه المرة الأولى التى أزور فيها القاهرة ولا أعلم السبب، ولكن أعتقد أنها غلطتى لأننى لم أجد الطريقة التى أحضر بها طوال هذه السنوات، وأتذكر أن آخر عرض جاءنى من مصر كان عام 1998 حاولنا وقتها أن نكون فرقة لكن لأسباب لها علاقة بالتنظيم فى لبنان لم نستطع، أيضا كانت هناك محاولة عام 2006 من مكتبة الإسكندرية ولكن الاتفاق لم يكتمل».

بعد رحيله عن عالمنا انفجرت مواقع التواصل الاجتماعى بعبارات الحب والعزاء.. سواء بمصر أو لبنان والعديد من دول الوطن العربى حزنا عليه ورثاء له، بينما وبرغم كل هذا الحب والوعى بقيمته الفنية.. بلغت شدة تواضع هذا الرجل وبساطة استقباله للأمور والتعليق عليها درجة جعلته غير مدرك لهذه المحبة فى حياته، لم يكن يتصور هو نفسه أو يعلم كم يكن له الشعب المصرى من حب وتقدير.. حتى أنه فى هذه الزيارة الأولى فوجئ بالزحام الجماهيرى على حفله، كما فوجئ بمعرفة الجمهور لأعماله ووعيه الكبير بمادته الفنية وموسيقاه ونضاله السياسى.. حيث أشار يومها قائلا:
«لم أكن أتوقع هذا الجمهور على الإطلاق إلى جانب أننى لم أكن أتصور أن هناك دراية بأعمالى بهذا الشكل لأن عادة فى لبنان نأخذ انطباعا أن المصريين من الصعب أن يستمعوا لأى شىء غير مصرى فالأولوية دائما عندهم للأعمال المصرية، وإذا استمعوا لأى فنان عربى لا بد أن يتم اختياره بعناية لذلك لم أتصور أنهم يعلمون شيئا عن الأعمال التى قدمتها بالحفل خاصة مقطوعة «العقل زينة» لأنها مجرد مقدمة موسيقية لبرنامج يقدم بإذاعة «صوت الشعب» وليست لها علاقة بفيروز وأشياء كثيرة فاجأتنى مثلا معرفتهم بـ«أنا مش كافر» وهى قديمة منذ عام 1985 فمتابعة جمهور غير متخصص بالموسيقى لهذه الدرجة كانت مفاجأة بالفعل».
زياد ودار الأوبرا
اشتهر زياد بمواقفه السياسية الحادة الواضحة والتى كانت أحيانا تؤثر سلبا على عمله بسبب عزوف بعض المنتجين عنه حتى خرجت شائعة تشير إلى أنه قد يرفض المشاركة بحفلات فنية فى أماكن تابعة للنظام أو الحكومة، وبالتالى كان سؤالى له حول عدم إقامته لحفل فنى ولو مرة واحدة بدار الأوبرا المصرية لماذا؟.. وأجاب:

«لم تدعنى الأوبرا مباشرة والشخص الذى دعانى فى عام 1998 اسمه «زياد بهاء الدين» ولم أعد أعرف عنه شيئا حتى الآن. كما قال: المشكلة أننا لم نكن وقتها نمتلك الفرقة اللازمة للانتقال لكن شائعة رفضى إقامة حفلات لأماكن تابعة للحكومة غير حقيقية على الإطلاق لأننى إذا جئت لتقديم حفل بالأوبرا أعتقد أن همى فى هذا المكان سيكون له علاقة بتقديم الموسيقى بشكل بحت وليس بإعلان آراء أو مواقف سياسية لأنه ليس المكان المناسب لذلك، خاصة أننى فى مصر لا أعلم جيدا نوعية الجمهور المصاحب للمكان مثلما كنت أجهل من سيأتى لرؤيتى بحفل افتتاح مهرجان الجاز».
كان دائم الانحياز لكل ما هو جديد ويمثل قيمة على المستوى الفنى والفكرى وبالتالى لم يتردد فى المشاركة مع أحد الكيانات المستقلة المنظمة لمهرجان موسيقى الجاز بمصر، التى انحاز لها مؤكدا: «أى عمل يقدم خارج الشكل المفروض علينا من وسائل الإعلام يشكل نافذة جديدة خارج الوسط الذى صار عاطلا.. وللأسف مصر مسئولة بشكل كبير عن تدهور حال الأغنية خاصة أنها كانت مسئولة فى وقت من الأوقات عن المستوى الفنى الرفيع للأغنية، لكن نجد حاليا أن معظم الأغانى «التكنو-الحديثة» المصرية المضاف إليها آلات غربية غزت الأسواق برغم أن الأوروبيين أنفسهم لا يطيقون سماعها أكثر من دقيقة لأنها لا تعبر بالنسبة لهم عن روح الشرق فى شيء، فضلا عن ذلك نجد أن شركة مثل «روتانا» تسىء استخدام هذا التدهور وتطيل عمره بالإنتاج فى هذا الجو، لذلك لا بد أن يكون لدينا شىء مختلف مثل «الجاز»، وأنا لا يمكن أن أتعاون مع روتانا ولو بقيت بلا عمل.. خاصة بهذا الحال الذى تصر عليه، وبالفعل تعرضت لأزمة إنتاج خاصة بالألبوم الأخير فنحن نعمل منذ عام كامل ونبحث عن منتج وفى النهاية أنتجته فيروز وحاليا نبحث عن موزع وهذا ما يحدث معى عادة فلا أجد إنتاجا بسهولة، لأن أى منتج يريد أن يقدم حفلة أولا ومن الممكن بعدها أن ينتج الألبوم عندما يضمن أنها حققت له إيرادات كبيرة، حتى إن فيروز ليس لديها منتج أسطوانة إلا ومرتبط بحفل فإذا قدمت الحفل وتحقق العائد ينتج لها الأسطوانة فهذه تجارة وثبت مع الوقت أن فيروز لا تبيع فورا وإنما بالتراكم».

الأغنية السياسية
مواصلا حديثه عن موسيقى الجاز وعن البصمة المصرية فى صناعة الموسيقى: «الجاز.. لا ينتمى لشعب بعينه وليس مهمًا كيف بدأ لكنه نوع من الموسيقى يشترك فيه الناس معا بأى آلة ويلعبون على الارتجال، فمثلا يأخذون أغانى معروفة يعيدون التصرف فيها فمن الممكن تقديم الأغنية الواحدة بشكل متنوع بمعنى أن يعزفها كل شخص بشكل مختلف وهذه العملية ليس لها منشأ أو هوية فليس مستحدثا علينا فن الارتجال كما أنه ليس مكتوبا بل يتم اختراعه بنفس اللحظة على المسرح، بينما الأغنية السياسية تخرج من أجواء معينة وهى ليست من اختصاص شخص بعينه لأن الأحداث عادة تفرض نوعية محددة من المادة الغنائية وهذا طبيعى وأحب أن أؤكد أنه مثلما قادت مصر موجات الموسيقى الشرقية فى وقت من الأوقات وكان يميزها «الرق» للأسف أصبحت تقدم اليوم أغانى تميزها الطبلة التى يرتبط وجودها فى الأساس بوجود الراقصة لأن هناك «فرق السماء والأرض» بين الطبلة والرق إلى جانب أن سرعة الضربة بالأغنية حاليا أصبحت 120 ضربة بالدقيقة مثل سرعة الرقص وهذا شىء حرفى خرج من مصر أولا.
علاقة زياد بالرقابة
اشتهر زياد بتمرده ونضاله بالمسرح والموسيقى والكلمة يحلل الأمور بخفة المهرج وروح الفيلسوف كما تصفه والدته الفنانة «فيروز»: «زياد مثل آلة التصوير يلتقط الصور اللى ما بيشوفها حدا.. الصور الموجودة بالعتمة.. عنده قدرة على مراقبة الأشياء بدقة غريبة وعنده تأمل طويل لعلاقة الأشياء ببعضها.. كل شىء له وجه ساخر وعظمة زياد قادر أن يلقط هذا الوجه الساخر».
وبالتالى أثرت هذه السخرية بشكل واضح على علاقته بالمنتجين وعلاقته بمؤسسات الدولة، بشكل عام برغم أن البعض أشار إلى أنه كان يتمتع بحصانة سياسية بينما أجاب هو على هذا بوضوح: «المشاكل فى لبنان كانت لا تحل بالرقابة ولكن مباشرة بمعنى أن كل واحد مسئول عن نفسه وعما يقول فلم يكن هناك منع لكن فى النهاية لا أحد كان يعلم نتيجة مواقفه التى تبناها، أحيانا اليوم قد تمنع الرقابة أشياء وتترك أشياء بسيطة مثل مسرح الساعة العاشرة الذى يقدم مجموعة من الاسكتشات الساخرة على السياسيين والذى لا يذهب إليه سوى السياسيين الذى يحرصون على مشاهدته بقوة كما أنه ليس مسرحا لكنه مثل مقهى وتم نقله من المسرح الفرنسى يقدمون فيه مجموعة اسكتشات صغيرة فهى ليس بها أى خطورة لأنهم يعتبرونها مجرد تنفيس، لكن هناك ممنوعات لأشياء أخرى مثل التى تتحدث عن الصراعات الطائفية لأن بلبنان لدينا 18 طائفة فى مساحة صغيرة، بعكس مصر فهى لم تعان من هذا الصراع الطائفى بشكل مباشر لذلك قد لا تكون هناك نفس الممنوعات، ومسألة تمتعى بحصانة سياسية هذا غير حقيقى على الإطلاق، لكننى أعى ما أقوله وكما ذكرت أن كل واحد بلبنان كان يتحمل مسئولية أفكاره وتوجهاته، كما أن الأوضاع الأمنية فى لبنان ليست مريحة على الإطلاق حتى وقتنا هذا فهناك تنصت على التليفونات وأحيانا يحدثون تشويشا بها لاعتبارات أمنية ولمن يعملون بالسياسة فالبلد كله مراقب.. «ملقوط» أمنيا من هذه الناحية لأننا مررنا بنكسات بسبب المعارضة واليسار وأصبح الاتجاه الطائفى يغلب على الأحزاب التى تشكلت من الطوائف المختلفة بعد الحرب لكنها أصبحت أضعف كثيرا من أيام الحرب. ويواصل: «هناك منتجون قاطعونى لأن ما أفعله كما يقولون «مش بيأكل عيش» فعندما أريد إنتاج عمل لا أجد منتجين؛ مثلا قدمنا حفلا بمسرح اليونسكو ببيروت ولم نجد له أى راع لأننا فى رأيهم نعمل بأمور ليست مربحة ماديا، لكننى فى النهاية لدى قناعة بما أفعله وليس لدى مشكلة أننى لم أتغير بسبب الضغوط المادية الكبيرة والتى بالطبع من الصعب مقاومتها لأننا نعلم جيدا أننا نحيا بنظام مبنى على الماديات، لكن الصمود أمام الإغراء المادى جعلنى اعتاد عليه بل وأجده سهلا وأصبح لا يفكر أحد فى إغرائى ماديا لأنهم يعلمون الإجابة جيدا وأكبر مثال على ذلك روتانا».
الابن المتمرد
استغل فيروز كأداة للتمرد على الشكل الموسيقى الذى اعتادت عليه مع الأخوين رحبانى جعلها أقرب للجماهير، «فيروز» التى ارتبطت فى الأذهان وكأنها صوت أشبه بالحلم كأنها شخص غير حقيقى بل صوت قادم من السماء، تغلفها هالة من الغموض عصية على الإدراك، أزاح الابن المتمرد عن والدته هذه الصفات المفرطة فى المثالية المبالغة فى عزلتها عن الآدمية، فهى ليست طائرة فى السماء على حد قوله: «لم أقصد بالطبع أن أقدم شكلا مختلفا من الموسيقى عن الأخوين رحبانى وحتى وقت قريب كنت أتصور أننى لست مختلفا لكن بعد سماعى لأكثر من تحليل وإجماع الناس على رأى واحد شعرت أننى أعبر بطريقة مختلفة، وبالطبع هذا لم يكن قرارا لذلك عندما كنت أقدم لها أغنية كنت لا أعتقد أنها غريبة عما كانت تقدمه لكننى اكتشفت العكس لأنها كانت تعترض على بعض كلمات الأغانى التى أقدمها لها، وكنت أرفض إحداث تغيير لمجرد اعتراضها وهذا حدث بيننا كثيرا لدرجة أن هناك بعض الأغانى ظلت تفكر فيها كثيرا مثل «مش قصة هاى» كانت تعترض على «مش فارقة معاى» تناقشنا كثيرا على هذه الكلمة لماذا لا أكتبها معى وليس «معاى» سنة كاملة جدل حول «معاى» لأننى لو غيرتها تغير اللحن، وكذلك «كيفك انت» التى اعترضت على تعبير «مالا أنت» كانت لا تريد أن تغنيها هكذا؛ بعد أن غنتها فى البداية لاقت عليها انتقادا شديدا لأن الجمهور اللبنانى يعتبر فيروز شيئا طائرا عن الأرض يحللون أعمالها من هذا المنطلق، فدائما فيروز بكل أغانيها كانت تغنى لحبيب غامض مجهول وغير واضح، لكن فى «كيفك انت» بدا من الكلام أنه رجل متزوج ولديه أبناء فاتهمت وقتها بأنها تشجع على الخيانة الزوجية وفى رأيهم كيف تفعل فيروز ذلك. كانت شجاعة منها أن تقوم بغناء «كيفك انت» وأصبح الجمهور يطلبها فى كل حفل وكذلك «عودك رنان» التى واجهت اعتراضات أيضا تطلب بكل الحفلات حتى ولو لم تكن موجودة ببرنامج الحفل.. للأسف مجتمعنا شديد الاهتمام بتفاصيل غريبة على عكس المجتمع المصرى الذى يتعامل مع الأغنية بشكل طبيعى لكننا فى لبنان لدينا حالة من الاستذكاء الزائد خاصة بالوسط الثقافى والصحافة لدرجة أنه ليس هناك شخص لبنانى يقرأ الصفحة الثقافية بسبب التعقيد الموجود بها بسبب ترفع المثقفين؛ بعدوا الناس عن القراءة ووفقا للدراسات التى تخرج كل عام أكثر الكتب انتشارا بلبنان كتب الأبراج والطبخ!
رحل زياد رحبانى مخلفا وراءه إرثا كبيرا من الألحان والأعمال الغنائية التى ستظل خالدة فى وجدان وذاكرة كل مواطن عربي؛ إرثا عبر به عن كل روح حرة.. وكأنه كان صوت كل من لا صوت لهم.. مس فنه القلوب؛ فبادله الناس صدقا بصدق وإخلاصا بإخلاص. جاءت ردود الفعل على خبر رحيله بمثابة مظاهرة حب وعشق فى نجل فيروز؛ لقيت والدته سيلا من الإشفاق والمواساة وكأنها أحد أفراد عائلتنا؛ فالرحبانى ليس مجرد فنان سكن فى عليائه بعيدا عن الجماهير بينما رجل انتمى إلينا وننتمى إليه؛ من هذا الشعور بالانتماء سكن الحزن والأسى على فقد علم من أعلام الموسيقى قلوب الشعوب العربية وليس لبنان وحدها.