صنع الله إبراهيم صوت المجتمع ومرآته

مروة مظلوم
«مهمة الكاتب الأولى أن يفهم هو نفسه ما يجرى حوله، ويساعد الناس على الفهم، عنده أسلحة كثيرة تشمل الغمز واللمز والسخرية، وهذه الأسلحة تثرى العملية الإبداعية».. ليس غريبًا أن تصدر تلك الكلمات عن كاتب مثل صنع الله إبراهيم الذى عاش معظم حياته بعيدًا عن الضجيج الثقافى، وأظل أسرته بظله بعيدًا عن أضواء الإعلام وصخب مواقع التواصل الاجتماعى.. وعلى الرغم من ذلك لا تخلو صفحات حياته من التفاصيل التى أثرت حياته بمزيد من الإبداع.. وإليكم بعضها.
فهو صُنع الله إبراهيم من أغرب الأسماء وأندرها رغم رنينها الحلو، فيقول عن سبب تسميته أنه عندما ولد عام 1937 فى القاهرة كان والدى يبلغ الستين من العمر وقام بصلاة استخارة ثمّ فتح المصحف فوضع أصابعه على كلمة (صُنع الله الذى أتقن كل شىء)، ومن هنا تمت تسميتى بصُنع الله، ولكن هذا سبّب لى مشاكل كثيرة عندما كنتُ فى المدرسة لأنه كان اسمًا غريبًا، وكان دائمًا مثار فكاهة للناس، أذكر أنَّ المدرس كان يقول لى «صُنع الله؟ ما كُلنا صُنع الله».
كان لوالده وجده أثر كبير على شخصيته حيث زوداه بالكتب والقصص للاطلاع فبدأت شخصيته الأدبية فى التكون منذ الصغر. ولد صنع الله فى زمن استقرار نسبى رغم وجود الاحتلال البريطانى، و كان يعشق كرة القدم فى طفولته؛ إلّا أنّ ضعف نظره الذى أجبره على اللجوء للنظارات الطبية وبنيته الجسدية الهزيلة كانت دائمًا تحول بينه وبين هذه اللعبة، وتدفع كابتن الفريق لاستبعاده. واتجه فى شبابه لدراسة الحقوق لكن سرعان ما انصرف عنها إلى الصحافة والسياسة.
انتمى صُنع الله للمنظمة الشيوعية اليسارية «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى» المعروفة اختصارًا باسم (حدتو) فاعتقل فى شبابه عام 1959 ضمن الحملة التى شنها جمال عبد الناصر على الشيوعيين والماركسيين وقضى فى السجن خمسة أعوام حتى 1964، رغم اعتقال ناصر له فإنه لا يزال يكن له الحب والاحترام ويعترف بإيجابياته الكثيرة مثل تأسيسه للمساواة الاجتماعية، وكان كذلك كثير الانتقاد للتيار اليسارى.
بعد الخروج من السجن اشتغل فى الصحافة لدى وكالة الأنباء (مينا) عام 1967، وبعدها ذهب إلى برلين الشرقية وعمل لدى وكالة الأنباء الألمانية (أ.د.ن) التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية من 1968 حتى 1971.
بعد ذلك اتجه إلى موسكو وقضى فيها ثلاث سنوات عمل خلالها على صناعة الأفلام لدراسته هناك التصوير السينمائى ليقرر عندها نيته على العمل فى الكلمة المكتوبة. عاد إلى القاهرة عام 1974 فى عهد الرئيس الراحل السادات وعمل لدى دار نشر قبل أن يتجه للكتابة الحرة كليًا عام 1975.
يرفض صنع الله إبراهيم تصنيف رواية “التلصص” على أنّها سيرة ذاتية؛ موضّحًا أنّ أى رواية قد تحمل جوانب وتفاصيل من حياة الكاتب لكن لا يجب أن تُعتبَر سيرة ذاتية إلّا إذا قرّ الكاتب بنفسه بهذا التصنيف سواء فى بداية الرواية أو قبل نشرها.
تتميز أعمال صُنع الله بحبكة السرد والحكى والتشابك فيحتاج القارئ للتركيز فى رواياته حتى لا يتشتت أو تتوه الأحداث منه. كانت أول رواياته “تلك الرائحة” عام 1966 ووصف فيها تجربته فى السجن وفترة ما بعد الخروج، لكن لم تنشر الرواية كاملة حيث تمت مصادرتها لعشرين عاما حتى عام 1986 وعندها تم نشرها كاملة لأول مرة بنصوصها الأصلية.
توالت بعدها كتابات صنع الله إبراهيم مثل «إنسان السد العالي» عام 1967 حيث ذهب ورفاقه فى مغامرة إلى أسوان بعد أن قسّموا العمل فيما بينهم، وأتبع هذا الكتاب بدراسة اسمها «حدود حرية التغيير» عام 1973.
ثانى أعماله الروائية كانت «نجمة أغسطس» عام 1974 وكانت واحدة من علامات التجديد فى الرواية العربية والفن الروائى بصفة عامة وكان موضوعها الرئيسى هو المشروع الوطنى السد العالى وكانت بمثابة شهادة على العصر والحدث. كانت الرواية الثالثة «اللجنة» التى صدرت عام 1981 وأثارت جدلًا واسعًا لانتقادها اللاذع لسياسة الانفتاح فى عهد السادات.
توالت أعماله الأدبية بعد ذلك فأصدر رواية «يوم عادت المملكة القديمة» عام 1982 ونالت أفضل رواية لهذا العام من المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، ثم فى العام نفسه أصدر «اليرقات فى دائرة مستمرة» وكذلك «عندما جلست العنكبوت تنتظر» وأيضًا «الدلفين يأتى عند الغروب» حيث كان غزير الإنتاج حقًا. فى عام 1983 أصدر رواية « الحياة والموت فى بحر ملون» ثم رواية «بيروت بيروت» عام 1984 التى جسد فيها الحرب الأهلية فى لبنان، وبعد ذلك رواية «ذات» عام 1992 التى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى فى 2013 من بطولة نيللى كريم.
وفى 1997 صدر له رواية «شرف» التى تعتبر أحد أفضل أعماله وهى من أدب السجون ووضعت فى المرتبة الثالثة فى ترتيب أفضل 100 رواية عربية وتدور حول «أشرف» أو “شرف” الشاب المدلل الذى تنقلب حياته رأسًا على عقب بعد أن يقتل «خواجة» حاول هتك عرضه فيدخل السجن لينتقل إلى عالم جديد ويرى فضائح القانون وفساده وينغمس فى وحل قصص واقعية من انتهاك للعدالة والتجارة فى المخدرات.
من أعماله الأخرى الجميلة رواية «وردة» الصادرة عام 2000 وتدور فى فترة التسعينيات فى سلطنة عمان وجبهة التحرير هناك، وكذلك رواية «أمريكانلى» الصادرة عام 2003 واسمها المبتكر الذى يمكن أن تقرأه “أمرى كان لى” أو نسبةً إلى أمريكا حيث تدور الرواية عن أستاذ تاريخ مصرى فى جامعة أمريكية، ويتناول الكاتب فيها تاريخ البلدين. صدر له بعد ذلك “التلصص” عام 2007 ثم “العمامة والقبعة” عام 2008 وكتاب “القانون الفرنسى” فى العام نفسه.
وفى أعقاب نكسة 1967 كتب صُنع الله إبراهيم رواية “1967” ولم يستطع نشرها فى تلك الفترة بسبب القيود المفروضة على هذا النوع من الروايات الجريئة فى مصر، ولم تسنح له فرصة أخرى لنشرها حتّى عام 2017 عندما نُشرَت بعنوان “67”.
رغم مواقفه السياسية التى ظهرت جلية فى كتاباته إلا أنه لم ينتمى لحزب سياسى قط وإنما هى مجرد أفكار تبناها قلمه وإبداعه الشخصى فى رواياته وكتبه.. ولكن يبدو أن الفارس أنهكته المعارك فهو يخوض صراعا مع المرض أجرى على أثره جراحة ناجحة فى مايو الماضى بعد أوامر من الرئيس عبدالفتاح السيسى باتخاذ كافة الإجراءات الطبية اللازمة لعلاجه، وبعد تعافيه عاوده المرض وهو الآن فى الرعاية المركزة محاط بدعوات محبيه بالشفاء العاجل.