السبت 9 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

روزاليوسف تكشف المسكوت عنه فى جرائم الإبادة بالقطاع

«الإبادة الصامتة».. ولادة أجيال جديدة «مشوهة» فى غزة

 فى مشهد يفتقر لكل معانى الإنسانية، تتجاوز الحرب على غزة حدود الصراع العسكرى التقليدى، فلم يكن القتل هو الوسيلة الإسرائيلية الوحيدة للإبادة داخل القطاع، إذ استخدم سلاح التجويع كآلة حاصدة للأرواح إلى جانب الغارات التى وزعت أشلاء الغزاويين فى كل مكان، ليسير الاحتلال بخطوات تسطرها علامات الجوع على أجساد المدنيين، خاصة الأطفال ليترك آثارا صحية وبدنية ونفسية على الأجيال القادمة، منتجا شعبا مريضا معاقا لا يمكنه المقاومة أو الإنتاج.. تلك الجرائم التى تتوارى خلف دخان الحرب، المختبئة بين أنين الجوعى وصمت المنكوبين، حاولت «روزاليوسف» رصدها فى ملف المسكوت عنه فى جرائم الإبادة فى غزة.



تدمير ممنهج للمنظومة التعليمية

قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت العملية التعليمية فى قطاع غزة، رغم الحصار المستمر منذ 2007، تسير بخطى منظمة تشبه التحدى الصامت لآلة الاحتلال، فى القطاع الصغير المحاصر، كانت تنتشر 19 جامعة وفرع جامعة، و796 مدرسة حكومية وخاصة وأخرى تتبع وكالة «الأونروا»، إلى جانب قرابة 600 روضة أطفال، بحسب بيانات الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى.

لكن منذ أن اندلعت نيران العدوان الإسرائيلى، تحول التعليم من مساحة أمل إلى عنوان للكارثة، وفى حصيلة مفجعة كشفت عنها وزارة التربية والتعليم العالى الفلسطينية، استشهد 16,382 طالبًا، وأصيب 23,532 بجروح متفاوتة، فيما اعتقل 749 آخرون، لم ينج المعلمون من طاحونة الموت، حيث قتل 917 من الكوادر التعليمية، واعتقل 196 فى الضفة الغربية.

دمرت الحرب أكثر من 443 مدرسة وجامعة ومبانيها فى غزة، بينها 91 مدرسة تابعة للأونروا، كما سوت 60 مبنى جامعيًا بالأرض، وألحقت أضرارًا جسيمة بـ20 مؤسسة تعليمية أخرى، أما فى الضفة الغربية، فقد اقتحمت قوات الاحتلال 152 مدرسة و8 جامعات، ونشرت الخراب فى قاعاتها.

تحولت المدارس التى كانت ملاذًا للعلم، إلى ملاجئ تأوى آلاف العائلات النازحة، وتوقفت العملية التعليمية فعليًا، ليس فقط بسبب تدمير البنية التحتية، بل أيضًا بسبب انهيار الحياة اليومية، فضلا عن أن غياب التعليم أفرز آثارًا عميقة على الأجيال الصغيرة، إذ حرم الأطفال من اكتساب المهارات الأساسية، بينما تعطلت حياة طلاب الجامعات وتأجلت امتحاناتهم ومستقبلهم إلى أجل غير معلوم.

وتقول الدكتورة إسراء على، الباحث الأول بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية لـ «روزاليوسف»، إن تبعيات الحرب على التعليم فى غزة تنقسم إلى بعدين: الأول يتعلق بالبنية التحتية، وآخر يمس البنية البشرية والنفسية للطلاب والمعلمين معًا، مشيرة إلى أن 132 مدرسة تحولت إلى أنقاض، بينها 65 كانت تابعة للأونروا، إلى جانب 348 مدرسة تعرضت لأضرار جزئية، ويمكن الاستفادة منها فى خطط الإعمار العاجلة أو المتوسطة.

وتشير الباحثة، إلى وجود جهود محلية من المعلمين الذين حولوا بعض الخيام إلى «كتاتيب» لتعليم القراءة والكتابة، إلى جانب جهود دولية مثل المبادرة التى وقعتها «اليونيسيف» مع حكومة فنلندا فى ديسمبر 2024، تحت عنوان «التعليم النوعى الشامل» بقيمة 3.4 مليون يورو، تستهدف توفير بيئة تعليمية آمنة على مدى ثلاث سنوات.

أما عن خطط إعادة الإعمار، فأوضحت أن مصر كانت من أبرز الدول التى قدمت خريطة تعافٍ تعليمية، تتضمن تقييمًا بيئيًا للمدارس التى لا يمكن العودة إليها بسبب التلوث الناتج عن القصف.

التجويع وحرب الإبادة البطيئة

لم يعد الجوع فى غزة عرضًا جانبيًا للحرب، بل أداة مدروسة للاحتلال للإبادة البطيئة، تُستخدم لإضعاف البنية الجسدية والعقلية للمجتمع الفلسطينى، حتى تُنتزع منه القدرة على المقاومة، ويولد جيل مريض هش، لا يقوى على الإنتاج أو الدفاع عن نفسه.

وزارة الصحة الفلسطينية فى غزة، تؤكد أن عدد الوفيات الناتجة عن سوء التغذية منذ بدء العدوان الأخير بلغ 175 شخصًا، بينهم 93 طفلًا، تلك الأرقام المفزعة تكشف عن وجه آخر من وجوه الحرب، إذ تشير البيانات إلى أن عدد الوفيات بسبب الجوع فى شهر يوليو وحده بلغ 90 حالة، ما يمثل ذروة كارثية للوضع الإنسانى فى القطاع.

الدكتور خليل الدقران، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية فى غزة، كشف لـ«روزاليوسف»، صورة مفزعة لما آلت إليه الأوضاع الصحية والإنسانية، قائلًا: إن الأطفال والنساء الحوامل الذين يصلون إلى المستشفيات يعانون من أمراض سوء التغذية فى مرحلتها الخامسة، وهى الأشد فتكًا، ما يعنى أنهم على شفا الموت الفورى فى حال عدم تلقيهم العلاج والغذاء العاجل.

فى غزة هناك نحو مليون طفل يعانون من درجات مختلفة من سوء التغذية، بينهم 600 ألف طفل دون سن العاشرة يتعرضون لخطر دائم بسبب انعدام الغذاء وغياب أدنى مقومات الحياة، كما يوجد 60 ألف رضيع فى حالة حرجة للغاية، حيث لا تتحمل أجسادهم الصغيرة أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام دون حليب أطفال.

وبصوت يملؤه الألم يصف «الدقران» ملامح الإبادة الوحشية بقوله: «هؤلاء يصلون إلينا فى المستشفيات كأنهم هياكل عظمية، بلا مناعة، بلا مقاومة، ثم يفارقون الحياة تباعًا، وأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة لا يجدون رعاية تُذكر، لأن أغلب المستشفيات فى قطاع غزة قد أُخرجت من الخدمة بفعل القصف الممنهج»، مضيفا أن الأقسام القليلة التى بقيت عاملة، خاصة أقسام الأطفال، أصبحت عاجزة تمامًا عن الاستيعاب، إذ بلغت نسبة إشغال الأسِرة 400%، ما اضطر الأطباء إلى وضع أكثر من خمسة أطفال على سرير واحد، وسط نقص تام فى الأدوية والمحاليل والمكملات الغذائية وحليب الأطفال.

ولم تقف المعاناة عند حد الأطفال بحسب بل يوجد 60 ألف امرأة حامل يتعرضن لمضاعفات صحية جسيمة بسبب سوء التغذية، كثير منهن فقدن أجنتهن، فى مشاهد تتكرر يوميًا دون أن يهتز ضمير العالم، إذ يقول الدقران بأسى: «نحن نعمل بإمكانيات شبه معدومة، نقدم الحد الأدنى من الرعاية، بعض المحاليل الوريدية التى بالكاد تكفى، لكننا لا نملك حليب أطفال، ولا مكملات غذائية، ولا حتى رغيف خبز نقدمه للمريض داخل المستشفى، حال المرضى كحال الأطباء، الجميع جائع».

فى أقسام الطوارئ والرعاية، الطواقم الطبية نفسها باتت عاجزة، حسبما أكد المتحدث باسم الصحة، مضيفًا: «نمكث أحيانًا ثلاثة أيام أو أكثر من دون أى وجبة طعام، لا نجد رغيف خبز، ولم تدخل إلى غزة قطعة لحم واحدة منذ أكثر من 150 يومًا، لا بروتينات، لا خضروات، لا طماطم، وصل الأمر إلى أن سعر الكيلو الواحد من الطماطم قد يتجاوز الـ60 دولارًا إن وُجد أصلًا، ولقد تراجع وزن الطواقم الطبية أنفسهم بأكثر من 30%، وبات من المستحيل عليهم العمل بشكل متواصل كما فى السابق، إذ تهاوت أجسادهم ولم تعد تقوى على الاحتمال، ونعجز حتى عن توفير علبة حليب واحدة لكل طفل فى المستشفى، نبحث عنها كما يبحث الأمهات عن جرعة أمل».

ويختم بنداء يشبه الصرخة: «نحن بحاجة ماسة إلى إدخال كل شىء، نطالب بدخول المساعدات بشكل عاجل»، مشيرًا إلى أنه إن انتهى العدوان قريبًا فإن تعافى الأطفال والنساء من المجاعة سيتطلب وقتًا طويلًا، خاصة الرضع وحديثى الولادة، الذين لن تسلم أدمغتهم من تأثير هذا النقص الفادح فى الغذاء، وقد يعانون مستقبلًا من مشاكل فى الفهم والإدراك، لأن أجسادهم لم تحصل على ما تحتاجه من عناصر أساسية للنمو. 

وفى شهادته لـ «روزاليوسف»، أكد د.محمد أبو سليمة، مدير مجمع الشفاء الطبى، أن غزة دخلت رسميًا المرحلة الخامسة من الجوع، وإن المستشفيات تستقبل يوميًا العشرات ممن يعانون من سوء تغذية حاد، أغلبهم من الأطفال، موضحًا أن 100 ألف طفل دخلوا فى مرحلة سوء التغذية الحاد، منهم 40 ألفًا فى حالة حرجة، بعضهم يتوفى يوميًا لعدم توفر الغذاء والدواء، خاصة من يعانون من أمراض مزمنة أو من حديثى الولادة.

خسائر نفسية واضطرابات سلوكية

 فى مشهد مؤلم لا يُرى فيه سوى الدمار، وتحت ركام البيوت المنهارة، تختبئ جراح أخرى لا تقل فتكًا عن الأسلحة المتطورة، إنها الخسائر النفسية العميقة التى تحفر فى وجدان أجيال كاملة، لا تزال تتنفس الموت كل ساعة، دون الشعور بالأمان أو حتى القدرة على الحلم. 

وبحسب تقديرات منظمة اليونيسيف السابقة للحرب، كان 500 ألف طفل فى غزة بحاجة إلى الدعمين النفسى والاجتماعى، أما الآن، فتقدر المنظمة أن جميع الأطفال فى غزة بلا استثناء، أى أكثر من مليون طفل تقريبًا، يحتاجون إلى دعمين نفسى واجتماعى عاجل.

وتقول دراسة للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن أطفال غزة قد ظهر عليهم عدة أعراض تتعلق بالصدمات النفسية الشديدة، من بينها التبول الليلى، السلوك العدوانى، التشنجات، الخوف الدائم، والعصبية المفرطة، فضلًا عن التعلق الشديد بآبائهم وعدم القدرة على الانفصال عنهم. ولا يقف الضرر النفسى على اضطراب ما بعد الصدمة فحسب، بل إن استمرار تعرض الأطفال فى غزة للحرب سيؤدى إلى تفاقم هذه الاضطرابات، والتى قد تستمر معهم لسنوات طويلة ما بين اكتئاب، وقلق، واضطرابات نوم، واضطرابات سلوكية.

ويذهب خبراء علم النفس إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يرون أن ما يمر به أطفال غزة لا يمكن تصنيفه ضمن «كرب ما بعد الصدمة»، لأن الصدمة فى غزة مستمرة، لا تتوقف، ولا تمنح الفرصة لأى تعافٍ نفسى أو زمنى.

وفى تصريح خاص لـ «روزاليوسف»، تقول الدكتورة إسراء على، باحث أول بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن هناك برامج منفصلة خاصة بالشق النفسى والسلامة العقلية للأطفال وأمهاتهم تطبق على أرض الواقع حاليًا، مشيرة إلى أن هذه الحملات لا تعتمد فقط على المنظمات الدولية، وإنما على جهود محلية يقودها أساتذة جامعات، عبر حملات توعية موجهة للأمهات، لتمكينهن من احتواء أبنائهن نفسيًا فى ظل الظروف الصعبة، والتعامل مع نوبات الغضب والخوف والرعب التى تلاحق الأطفال.