الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
علاء الديب.. ووقفته  قبل المنحدر

علاء الديب.. ووقفته قبل المنحدر

من السير الذاتية التى أضافت فصلا جديدا فى الأدب العربى المعاصر، وكانت قطعة من قلب الصدق، السيرة الذاتية التى كتبها علاء الديب «1939-2016» بعنوان «وقفة قبل المنحدر» وصدرت عن دار الشروق عام 2008، والسيرة الذاتية التى كتبها عبدالله الطوخى «1926-2001»، والتى صدرت فى عدة أجزاء منها «عينان على الطريق»، و«سنين الحب والسجن». وعلاء الديب، وعبدالله الطوخى من أبرز كتاب «روزاليوسف»، وقد اشتهر الديب بكتابة أهم باب لعرض الكتب فى الصحافة المصرية، وهو باب «عصير الكتب» على صفحات مجلة «صباح الخير»، كما أصدر العديد من الروايات مثل: «زهر الليمون»، و«عيون البنفسج»، و«أطفال بلا دموع»، و«قمر على المستنقع»، كما ترجم بعض الأعمال الأدبية مثل «امرأة فى الثلاثين» لهنرى ميللر، و«لعبة النهاية» لصمويل بيكيت، وغيرهما.



أما سيرته الذاتية «وقفة قبل المنحدر - أوراق مثقف مصرى من عام 1952 - 1982» فهى لم تقتصر على تناول جوانب حياته الشخصية فقط لكن كانت لها جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية المهمة.

بين الأدب والصحافة

وقد امتزجت هذه السيرة الذاتية بفن الرواية فى أحدث صورها السردية فمزجها بالمقطوعات الشعرية، ومشاهد من الأفلام السينمائية، وملامح من أدب الرحلة، وتضافرت تلك الفنون جميعا فى رسم صورة الشخصية الرئيسة لبطل هذه السيرة الذاتية: علاء الديب، الذى عبَّر فى أوراقه عن لحظات مهمة فى رحلته بين الأدب والصحافة، كما صور دور المثقف وإحساسه بالمسئولية تجاه بلاده ومواطنيه فيقول كاتبنا: «الذاكرة الحيّة قضيتى من البداية إلى النهاية، الذاكرة المشتركة لى ولك، ولنا جميعا، كيف نُبقى ذاكرتنا، وذاكرة الناس حيّة، وألا ننغمس فى الحاضر، وننسى الماضى، ولا نمتلك وقتا حتى للتفكير، إلى أين نسير؟!».

الحفاظ على الذاكرة

التعاطف مع الوجود الإنسانى، وما يتهدده من أخطار ومصائر يُشكل الركيزة الأساسية فى هذه السيرة الذاتية التى شهدت انفتاحا فكريا على تجارب وخبرات وآفاق ثقافية وسياسية مهمة.

المشهد الافتتاحى فى سيرته والذى يشبه مفتتح رواية يصف فيها الكاتب مشهدا من فيلم «هيروشيما.. حبيبى» وهو الفيلم السينمائى الذى كان يراه عدة مرات فى اليوم الواحد فيقول: أرى مأساة «هيروشيما» فى اليابان، ومأساة الحرب العالمية الثانية فى أوروبا تتعانقان تصبغان سحابة تظلل العالم كله، تضع حياتنا تحت وضوح لاهب لعدسة مكبرة فى حجم قرص الشمس.

يتماهى الديب مع مقولة لإيمانويل ريفا بطلة الفيلم «كل ما أريده هو أن يكون لى ذاكرة لا تعرف الصفح أو النسيان، ذاكرة لا تقبل العزاء»، وذلك بعد ما شاهدت بعينيها مآسى الحرب، والإشعاعات الذرية التى دمرت الإنسان والأرض، وكل الكائنات الحية.

ومن هنا كان الحفاظ على الذاكرة هو مرتكز أوراق كاتبنا، الذى يتحدث أيضا عن دوافع كتابته لهذه السيرة الذاتية فيقول إنه قرأ رواية صدرت فى «كوبا» لأدموند ديزنوس، حيث بطل الرواية كاتب تتركه زوجته وأمه وأبوه فى «هافانا» العاصمة، ويهاجرون جميعا مع كل الأصدقاء إلى أمريكا، تاركين الكاتب فى وحدة صريحة مع الثورة الكوبية التى تحاول الخروج من عالم التخلف أو على الأقل تدعى ذلك فأحس بقربه الشديد من هذا البطل كما أحس بوحدة التجربة وتماثل الظروف فيقول: جعلنى هذا البطل أشعر بأن تخلف الواقع من حولى جسد، أصارعه فى صباحى ومسائى، وأن رؤيته، ومعرفة أبعاده هى المحاولة الوحيدة التى يمكن أن تضع قدمى على طريق جديد.

فى نسيج الحياة

لقد سعى كاتبنا دائما إلى الكلمة الحُرة، ورفض رقيبه الداخلى، وعبَّر عن نفسه بطلاقة، بروح مفعمة بالانطلاق وبدا ذلك فى كتابته لتجربة سفره إلى المجر على نفقة الدولة لكى يشتغل بالترجمة، وهناك اكتشف الحب مع «أريكا» المجرية التى صنعت القصائد من اللقاء السريع على محطات الترام يصفها فيقول: تتحول الأشياء معها والأقلام والأوراق والبيوت والأشجار والأكواب إلى كائنات صغيرة تشاركنا الميلاد المتجدد.

لكن قصة حبه تصطدم بأسباب نهايتها لأن «أريكا» متزوجة ولها ابن، ويبلغه خبر وفاة عبدالناصر - وهو فى غربته - فيشعر أن حبالا قوية كانت تربطه بالشاطئ قد قطعت. كان وحيدا، وزاد موت عبدالناصر من وحدته، ويعبّر عن ذلك فى ألم فيقول: لم يكن عبدالناصر الذى مات رئيسا ولكنه كان شيئا فى نسيج الحياة.

عمال التراحيل العظام

كان كاتبنا مسكونا بحب أبناء بلاده، مسكونا بمعاناتهم وقد جرب هذه المعاناة عندما وصف سفره للعمل فى الخليج فيقول: كنت قادما كواحد من عمال التراحيل العظام الذين يخرجون من مصر بحثا عن لقمة العيش.

وقد كتب الطبيب على أوراق كشفه الطبى عليه أنه «صالح للعمل فى جميع الأجواء» أى لا يعانى من أمراض معدية أو خطيرة قد تسبب تكاليف للمؤسسة التى سيعمل بها، لكن هذه الجملة ظلت عالقة بذهنه لأن رئيسه رغم الصياغات المهذبة يعرف «لماذا جئت؟ وما دمت قد جئت، فعلينا أن نعيد ترتيب الحساب!».

رهيفا يتحدث عن تجربته، متمردا على طبقته المتوسطة التى وسمها بالعجز والرتابة فتحدث عن صراع الإنسان لتحقيق أحلامه، واستحالة تحقيقها الذى أرجعه لمكابدة التخلف، والانفصال بين الشعارات والواقع.

حرية على البطاقة!

وقد تمرد كاتبنا أيضا على رقيبه الداخلى، فقد كان يبحث عن حريته بشغف، ويصف هذا الرقيب الداخلى فيقول: إنه خليط غريب من الضابط، والشيخ المتعصب، والقسيس الجامد، خليط من العصى الغليظة والسوط، من عسكرى «الهجانة» ذى الكرباج السودانى، وعسكرى الدورية الخامل، من المخبر المتخفى فى بالطو وجلباب، أو المستتر وراء نظارة «ريبان» غامقة ذات إطار ذهبى، رقيب له ألف رأس وألف عين وألف ذراع، رقيب يبعدنى عن نفسى، وعن الناس، وعن الأرض، يجعل أول الجملة غير آخرها.

ويمضى كاتبنا باتساع رؤيته، وفى تطلعه للكاتب الحُر فى داخله فيقول: رقيبى مصرى، وأوروبى، دينى، وثقافى، جنسى وسياسى، رقيبى يمنعنى من الكشف ومن الاتصال، يمنع عنى حريتى، ويحيلها إلى بضاعة مُعلبة، تُصرف على البطاقة!

لكن كاتبنا الذى حرص منذ البدء على الارتباط بقضايا الناس ظل على عهده، فقد كان وهو طالب بكلية الحقوق يحرص على حضور محاضرات الأساتذة الكبار الذين يملكون القدرة على تحويل مواد القانون المدنى أو التجارى أو الجنائى، أو حتى قانون الإجراءات إلى قضايا عامة ترتبط بحياة المجتمع.

ويختتم علاء الديب وقفته قبل المنحدر فيقول: الأحداث كثيرة فى كتب التاريخ، والتفاصيل الفنية الموحية موجودة فى روايات وقصص الكتاب، ولوحات الفنانين، المهم بالنسبة لى هو الصوت ذلك الصوت الذى يقدم نقدا بصيرا مخلصا يستهدف ضمير الناس وتحريك وعيهم، الصوت هو المهم، هو الموقف.

تمرد علاء الديب على موقف المثقف الذى يقف متفرجا مراقبا، شاهدا على كل العصور، ناقما على هذا السؤال الذى كان دائما يطارده: لا أجد من يسألنى؟! ولا أعرف أنا كيف أجيب؟

إنها أوراق مثقف مصرى عاش ليكتب ملتمسًا لصوته أفقا فى فضاءات شاسعة، صارخا فى البرية: «الذاكرة هى حياتى».