الجمعة 7 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
السد العالى.. درع مصر الاستراتيجى وحارسها الأمين

السد العالى.. درع مصر الاستراتيجى وحارسها الأمين

ملحمة وطنية صنعت تاريخًا جديدًا



فى سجل التاريخ المصرى الحديث، يظل السد العالى ملحمة وطنية فريدة صنعت لمصر عصرًا جديدًا. لم يكن مجرد جدار ضخم على مجرى النيل، بل كان قرارًا استراتيجيًا مصيريًا، اختلط فيه حلم التنمية مع معركة السيادة الوطنية.

عندما انسحب البنك الدولى بضغط غربى من تمويل المشروع، كان من الممكن أن ينهار الحلم، لكن الرئيس جمال عبد الناصر اختار طريقًا آخر بالاتجاه إلى الاتحاد السوفيتى، ليؤكد استقلالية القرار المصرى. ومنذ وضع حجر الأساس عام 1960 وحتى افتتاحه رسميًا عام 1970، تحوّل السد إلى رمز للكرامة الوطنية ومشهد خالد فى ذاكرة المصريين، يثبت أن الشعوب حين تتوحد تستطيع أن تغيّر مسار التاريخ.

أرقام تروى الحكاية

لعل الأرقام وحدها تكفى لتكشف عظمة المشروع: فهو يمتد السد بطول 3,800 متر، وبارتفاع 111 مترًا، وبعرض عند القاعدة يبلغ 980 مترًا.ويحجز خلفه بحيرة ناصر، التى تُعد من أكبر البحيرات الصناعية فى العالم، بسعة تخزينية تتجاوز 132 مليار م³، منها 90 مليار م³ سعة نشطة يمكن استخدامها فى الرى ومواجهة الطوارئ. وعند تشغيله فى أوائل السبعينيات، وفّر السد نحو 2.1 غيغاواط من الكهرباء، كانت تغطى نصف احتياجات مصر وقتها. واليوم يساهم بما يقارب 13% من إجمالى إنتاج الطاقة الكهربية.

كما أسهم المشروع فى استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية، ووفّر نحو 12 ألف طن من الأسماك سنويًا من بحيرة ناصر، كما عزّز قدرات مصر على مواجهة التغيرات المناخية المفاجئة.

هذه الأرقام تجعل من السد العالى مشروعًا متكاملًا، يربط بين الأمن المائى والطاقة والزراعة والتنمية المستدامة.

حائط صد أمام كوارث الطبيعة

قبل بناء السد، كان المصريون يعيشون بين نقيضين: إما فيضانات طاحنة تجرف القرى والحقول، أو جفاف قاتل يهدد حياة الملايين. جاء السد ليغيّر هذه المعادلة جذريًا.

ففى فترة الجفاف القاسية بين 1981–1987، لولا السد العالى لواجهت مصر كارثة غذائية ومائية محققة. وبالمثل، حين هاجمت فيضانات قوية مصر والسودان بين 1998–2000، كان السد هو الحارس الأمين الذى امتص الصدمة وحمى البلاد من خسائر فادحة.

ومن الناحية الاقتصادية، تشير التقديرات إلى أن عوائد السد خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى بلغت ما يعادل 7–10 مليارات جنيه بأسعار 1997، وهو ما يمثل نحو 3–4% من الناتج المحلى الإجمالى وقتها.

السد العالى وسد النهضة.. معركة الصمود  (بين التهويل والتهوين )

اليوم يقف السد العالى أمام أصعب اختبار فى تاريخه، مع استمرار إثيوبيا فى الملء والتشغيل الأحادى لسد النهضة. فى ظل هذا الواقع، يصف الخبراء السد العالى بأنه خط الدفاع الأول لمصر، حيث يقوم بتعويض أى فاقد مائى عبر مخزون بحيرة ناصر، ليضمن استمرار تدفق المياه للشرب والزراعة والصناعة.

فعلى سبيل المثال، بين 25 و27 سبتمبر 2025، تجاوزت كميات المياه المتدفقة من سد النهضة نحو 750 مليون م³ يوميًا بعدما فتحت إثيوبيا بوابات السد بشكل منفرد، مقارنة بمتوسط تدفقات يومية يتراوح بين 250–450 مليون م³ فى الظروف الطبيعية. هذه الأرقام تكشف أن السد العالى لم يعد مجرد مشروع تنموى، بل أصبح صمام أمان استراتيجى يحمى مصر من القرارات الجيوسياسية الأحادية التى تهدد أمنها المائى.

ورغم الأصوات الإعلامية التى تضخم المخاطر وتدّعى أن السودان يغرق أو أن مصر تواجه انهيارًا وشيكًا، فإن الحقائق العلمية تؤكد غير ذلك. فالسد العالى يمتلك سعة تخزينية هائلة تبلغ 162 مليار م³، يضاف إليها سعة البحيرات الثلاث المتكوّنة حول بحيرة ناصر والبالغة نحو 22 مليار م³، فضلًا عن مفيض توشكى القادر على تصريف أكثر من 20 مليار م³.

وبالتالى، حتى فى حال تفريغ كميات ضخمة من بحيرة سد النهضة، لن تواجه مصر خطرًا مباشرًا، خاصة أن استهلاكها السنوى البالغ 55.5 مليار م³ يكون قد سُحب مسبقًا من المخزون قبل موسم الفيضان.

هذا يوضح أن السد العالى يظل الدرع الحقيقية لمصر، وأن التعامل مع الملف المائى يجب أن يقوم على العلم والدراسات الموضوعية، لا على المتاجرة الإعلامية أو المبالغات غير المستندة إلى أرقام.

مخاطر مستقبلية وحسابات دقيقة

ورغم هذه القدرة الهائلة، فإن استمرار السياسات الإثيوبية الأحادية قد يمثل تهديدًا مزدوجًا إذا تزامن مع سنوات جفاف جديدة. ففى مثل هذا السيناريو، يمكن أن ينخفض منسوب بحيرة ناصر إلى مستويات حرجة، مما يضغط على قدرة مصر فى توفير حصتها المائية البالغة 55.5 مليار م³.

وتؤكد الدراسات أن كل مليار متر مكعب فاقد من المياه يعنى فقدان نحو 200 ألف فدان من الرقعة الزراعية، وهو ما يترجم مباشرة إلى تهديد الأمن الغذائى. هنا يظهر الدور المصيرى للسد العالى فى إدارة الفارق الزمنى بين التدفقات، وحماية مصر من الانهيار المائى المحتمل.

إنجازات تتجدد عبر العقود

على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على تشغيله، لم يفقد السد العالى بريقه، بل ما زال مشروعًا حيًا قابلًا للتطوير. وتشمل أبرز مجالات تعظيم الاستفادة منه من خلال الآتى:

١- تحديث محطات التوليد الكهرومائى لزيادة القدرة إلى 2.4 غيغاواط بحلول 2028.

٢-التوسع فى الاستزراع السمكى ببحيرة ناصر وربطه بالصناعات الغذائية والتصديرية.

٣- استغلال الطمى المتراكم خلف السد فى الصناعات الزراعية والإنشائية.

٤- تنمية السياحة حول السد والبحيرة باعتبارهما مقصدًا عالميًا للهندسة والإنجاز البشرى.

٥- التكامل مع مشروعات الطاقة الشمسية لتعزيز منظومة الطاقة النظيفة والمتجددة.

ماذا لو لم يُبن السد العالى؟

السؤال الذى يشغل المؤرخين والاقتصاديين على السواء: كيف كان سيكون حال مصر لو لم يُبن السد العالى؟

الإجابة باختصار: كانت مصر ستظل رهينة للتقلبات الطبيعية، عرضة لكوارث غذائية ومائية متكررة، عاجزة عن مواجهة فيضانات النيل أو تعويض سنوات الجفاف. وكان مصير التنمية الزراعية والصناعية مرهونًا بعوامل خارجية لا سيطرة لمصر عليها.

رؤية مستقبلية: السد العالى ضمن منظومة الأمن المائى

رغم مكانته الاستراتيجية، فإن السد العالى وحده لا يكفى لمواجهة تحديات العقود المقبلة، خاصة مع توقع وصول عدد سكان مصر إلى أكثر من 150 مليون نسمة بحلول 2050، وانخفاض نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 350 م³ سنويًا.

لهذا، تعمل الدولة على دمج السد العالى فى منظومة شاملة للأمن المائى، تشمل:

١- تحلية مياه البحر: الوصول إلى طاقة إنتاجية تفوق 8 مليارات م³ سنويًا بحلول 2050.

٣- إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى: رفع الكميات من 20 مليار م³ حاليًا إلى أكثر من 30 مليار م³.

٤- التوسع فى نظم الرى الحديث: لتقليل الفاقد المائى المقدر بنحو 10–12 مليار م³ سنويًا.

5- تطوير مفيض توشكى لتأمين السد وحمايته فى حال زيادة الفيضان أو زيادة التدفقات المائية. 

هذه السياسات، مع الدور التاريخى للسد العالى، ستظل الضمانة الأساسية لاستقرار الأمن المائى والغذائى لمصر فى مواجهة النمو السكانى والتغيرات المناخية.

أيقونة الكرامة والسيادة

اليوم، وبعد مرور 65 عامًا على بدء إنشائه، يظل السد العالى شاهدًا على عظمة الإرادة المصرية، فهو ليس مجرد خزان مياه أو مولد كهرباء، بل درع استراتيجية تحمى الأمن القومى، ورمز لإرادة أمة قررت أن تصنع معجزتها بيدها.

إنه بحق الحارس الأمين للنيل ولمصر، والدليل الحى على أن الشعوب حين تقترن إرادتها بالعلم والعمل، قادرة على صناعة إنجازات تبقى خالدة فى الوجدان والواقع.