تجربة فنية ملهمة على خشبة المسرح
7 راكب رحلة التعافى من الإدمان

هند سلامة
“العلاج بالفن”.. مصطلح يتداوله المثقفون طوال السنوات الماضية وعلى قدر أهميته ونعومته فى إصلاح ما أفسدته بيئات اجتماعية فاسدة.. ظل هذا المصطلح حبيس المداولة داخل الندوات وجلسات المثقفين، يمارسه البعض تعبيرا شفاهيا بين الغرف المغلقة قد تقام حوله جلسات توعية بأبعاده فى ورش ولقاءات بينما لم يتم اختباره فى الواقع بشكل حقيقى، اختبار يؤكد مدى فاعليته وصحته.. هل صحيح يسهم الفن فى علاج أمراض مزمنة وحالات مستعصية؟!..أم هو مجرد مصطلح وتعبير مثالى رومانسى، يترجم خيالات أصحابه عنه؟.
فى تجربة إنسانية وفنية بديعة قرر المخرج عمرو حسن بدعم من صندوق مكافحة الإدمان اختبار هذا المصطلح عمليا.. فى محاولة للدفع بمجموعة من المتعافين إلى أرض الواقع وإعادة إدماجهم فى المجتمع من جديد دون إقصاء أو أحكام مسبقة، نظم المخرج عمرو حسن ورشة تدريب مسرحية على 55 متعافيا من الإدمان ووقع الاختيار على خمسة أفراد منهم للمشاركة فى بطولة العرض المسرحى “7 راكب” الذى كتب خصيصا وتم إنتاجه من قبل صندوق مكافحة الإدمان للتوعية بمخاطر الإدمان ثم إعادة دمج المتعافين مع المجتمع من جديد.
“7 راكب”.. يتقاطع العرض المسرحى فى بنائه الدرامى مع مسرحية “سكة السلامة” للكاتب الراحل سعد الدين وهبة، سائق ميكروباص قرر هو وزوجته قضاء يوم عطلة بمدينة الإسكندرية لكنه لم يشأ أن تضيع عليه فرصة تحميل عدد من الركاب من أراد السفر إلى نفس المدينة وفى لحظة فارقة يدفعه أحد الركاب إلى الانحدار يمينا لينحرف عن الطريق ويتوه بالصحراء، يبدأ الصراع بينهم وإلقاء اللوم على السائق ثم على الشاب الذى دفعه للانحراف عن طريقه من البداية لنكتشف فى النهاية أن هذا الشاب أراد الهروب من كمين شرطة لأن بحوزته مخدرات.
لم يعتمد العرض فى عقدته الأساسية على فتح مجال الوعظ والتوعية والخطابات الرنانة فى الحديث عن مخاطر الإدمان، تجاوز المؤلف هذه العثرة والفخ الفنى الذى يأخذ هذه الأعمال إلى منحدر السطحية والمباشرة والتى تضعه فى مأزق التصنيف الذى يجعله أقرب إلى حملات التوعية الإعلانية أكثر منه عملا دراميا، خرج صناع “7 راكب” من هذا الفخ الكبير وتعامل صناعه مع أبطاله المتعافين وكأنهم مجموعة من الممثلين المحترفين إلى جانب البناء الأساسى للقصة الذى جاء كما سبق وذكرنا متقاطعا مع مسرحية “سكة السلامة” مجموعة من الركاب وسائق يتيهون بالصحراء، ويبدأ كل منهم فى الحديث عن مشاكله الشخصية تستعرض الزوجة أزمة حياتها مع زوجها بسبب ابنهما الذى يعانى من إهمال أبيه والذى هرب من المنزل إلى منزل جدته بالإسكندرية وكانت هذه الرحلة من أجل اجتماعه بأبيه فى الأساس ثم تتوالى القصص والحكايات الموظف الذى كان ينتظر الترقية ويجرى تحليل مخدرات والطبيب الذى حاول إنقاذ فتاة أصيبت بـ”الغرغارينا”.. كلها قصص إنسانية بالدرجة الأولى وتتفجر من خلال حكيها الكوميديا والصراعات الشخصية بينهم ثم إلقاء الاتهامات وخلافات دون ذكر أو حديث من قريب أو بعيد عن الإدمان حتى النصف الأخير من العرض.
لم يأت ذكر قصة الإدمان أو التوصل إلى سبب حبسهم بهذه الصحراء وانحرافهم عن الطريق الأساسى إلا مع اقتراب نهاية العرض عندما يكشف السائق سر هذا الشاب الذى دفعه للانحراف عن طريقه بأنه كان يحمل حقيبة تحتوى على المخدرات، وبالتالى لم يجنح المؤلف لعرض الأثر الذهنى أو النفسى أو الاجتماعى على حياة المدمن وحده بل ما قد يتسبب فيه من أذى بالغ لمن حوله فهذا الرجل تسبب فى تعطيل مصالح مجموعة من البشر بشكل أهوج وغير مسئول فى محاولة منه للنجاة من خطر محقق، لعبة مسرحية شديدة العمق والذكاء والواقعية.
اعتمد العرض على تحقيق المتعة بالدرجة الأولى وكسب قلوب الجماهير للاندماج فى عرض مسرحى “عادي” وليس حملة توعية اجتماعية، فى إطار كوميدى ساخر دارت أحداث “7 راكب” تولى مسئولية غزل وعزف هذه الكوميديا واحتواء مجموعة من الهواة مع مجموعة من المتعافين الفنان عبدالمنعم رياض، استطاع رياض إدارة إيقاع الكوميديا على المسرح مع مجموعة من شباب الهواة الموهوبين وعلى رأسهم الشاب المدمن الذى تسبب فى أزمتهم جميعا وآخرون متعافون وكأنه مايسترو يضبط لحظات التمثيل والضحك فى الأخذ منه والرد عليه، بشكل غير مرئى وغير مسموع بعيد عن الخطب والمواعظ والنصائح التربوية استطاع العرض أن يصل إلى وجدان الجماهير الذين تفاعلوا معه وكأنهم فى نزهة مسرحية عائلية اعتيادية، تجربة ملهمة دفعت بمجموعة من المتعافين من الإدمان إلى التحول من الهروب من الواقع باستخدام المخدرات إلى الهروب منه بخيال الفن، سحب المسرح اهتمامهم وخيالهم وبدأوا معه فى اكتشاف عالم جديد عليهم عالم الدراما والتمثيل وسحر السباحة فى فن التشخيص وجرأة مواجهة الجماهير، الجرأة التى تحسب لهم مرتين مرة كمتعافين لم يخجلوا من مواجهة المجتمع فى هيئتهم الجديدة ومرة فى تجربة اكتشاف أنفسهم كممثلين على خشبة المسرح، تجربة إنسانية بديعة تستحق الالتفات والإعادة على خشبات مسارح متنوعة والعرض بين أنماط مختلفة من الجماهير، فمن شأن هذه التجربة أن تفتح المجال لتجارب أخرى مشابهة وتخرج مصطلح العلاج بالفن من جلسات التنظير إلى الممارسة الحياتية.
شارك فى بطولة العرض المسرحى الفنان عبدالمنعم رياض، ومجموعة المتعافين عبدالرحمن سامى، نادر خالد، على أبو القاسم، حميدو عبدالعال، أحمد الشربينى، والممثلون ندى طلعت، محمد مصطفى تيكا، أشعار طارق على ومحسن عموشة وأحمد شربينى، تأليف عوض إبراهيم وأمير عبدالواحد، وأحمد حنتحوت، ديكور وملابس عبدالله محروس.