
د.عزة بدر
«حبيت الحياة طلعت مرتبطة»!
يأسرنى التأمل العميق لمعنى الحياة، هكذا قلت لنفسى وأنا أقرأ ما كتبه صاحب الميكروباص على هيكله المعدنى: «حبيت الحياة طلعت مرتبطة»!
فهو يُعبَّر عن حب عارم للحياة، وعن طعم الخذلان إذ لم يجد ما يشتهى، وكأن الحياة عروس جميلة ليست له، أو امرأة رائعة لكنها ليست من حقه فهى مرتبطة بآخر.
عرفه أم لا يعرفه فالنتيجة واحدة، لابد أن يبتعد.
تُجسد هذه المقولة شجنًا من نوع خاص، يصيب المرء وهو يتطلع لأمر يراه ضروريًا بل حتميًا ثم يكتشف استحالة تحقيقه، فهل الدنيا قريبة جدًا وبعيدة فى الوقت نفسه؟، فإذا حاول المرء أن يضمها فإذ به كالقابض على الماء، لمعة سراب فى طريق صحراوى طويل؟! هل هى دانية القطوف، تشير إليك.. أن اقترب، فإذا دنوت استعصت وتمنعت!
«طلعت مرتبطة» !، يا لها من عبارة.. أتأملها، وقد كُتبت على جسد الميكروباص باللون الأحمر، فأسأل تدفق أفكارى، هل السائق هو الذى كتبها فكانت نتاج تجربته مع الحياة، وخلاصة ما توصل إليه، هل وصلته كحكمة من أبيه أو جده؟، هل كتبها آخر أراد أن يهديه خلاصة عطر، وذوب تجربة مُعاشة؟
هل تعود جذور هذه الحكمة للجد المصرى القديم: الفلاح الفصيح؟، عندما اعتصر شكاياته مما قابله فى دنياه من صعوبات وظلم، كان صوته الشجىّ يُغرى بمزيد من المنع حتى يغرد، فهل كان ذلك عدلًا.. أن يشكو ويشكو، وهناك من يستعذب شكايته، وكأنها نغم! .. «طلعت مرتبطة»!، أقولها فأتذكر نجيب الريحانى، وقد أمَال طربوشه على جانب رأسه، وقد دمعت عيناه، وليلى مراد تغنى له:
«جبتك معايا عشان تقاسمنى ليلة هنايا، وفجر غرامى»، فيقول الريحانى: «يا لطيف.. يا لطيف» ثم يكتشف أنها تحب غيره، وأنه مجرد شاهد على قصة حب، وليس طرفًا فيها.
... «طلعت مرتبطة»!، تتردد العبارة بأساها فأتذكر يوسف وهبى وهو يقول: «إنما الدنيا مسرح كبير».
... «حبيت الحياة»، لأكتب هذا المقطع وحده على ذراعى، وأنقشه على قلبى، لا ليس قبله شىء، ولا بعده شىء!
عبارة تخفق فى دمى، كما لو كان يتماهى مع قصيدة مرسى جميل عزيز «لم لا أحيا / وظل الورد يحيا فى الشفاه» ليتردد النداء فى قلبى صداحًا:
«سوف أحيا.. سوف أحيا»
وكما فعل سيد عويس فى كتابه «هتاف الصامتين»، عدت استقرئ ما كُتب من حولى على أجساد المركبات المعدنية استعيد كلماته إذ يقول: «ظاهرة الكتابة على هياكل السيارات، واللوريات والعربات فى مجتمعنا المعاصر هى ظاهرة اجتماعية فريدة فى نوعها، وهى فى ضوء مضمونها الثقافى المصرى الفريد تعتبر إحدى وسائل التعبير عن الصامتين من أعضاء هذا المجتمع، فهى من حيث الشكل جهاز إعلامى ثقافى شعبى فى مجتمعنا المصرى المعاصر، يتحرك على امتداد مُدن هذا المجتمع وقراه، ويكون مضمونها الثقافى جزءًا من المناخ الاجتماعى والثقافى لهذا المجتمع، فهو يعكس الكثير من العناصر الثقافية غير المادية التى تملأ هذا المناخ، وتعيش فى كيان أعضاء هذا المجتمع، وفى نفوسهم، والتى تكون لها بدورها بالضرورة آثار فى نفوس هؤلاء الأعضاء، ويكون لها تأثير فى اتجاهاتهم نحو الحياة».
وكان سيد عويس قد تتبع ظاهرة الكتابة على المركبات فى إحدى عشرة محافظة من الصعيد إلى الوجه البحرى، والقاهرة، ووصولًا إلى الإسكندرية، فجمع الحكمة مكتوبة من على جدران خمسمائة مركبة، جمع حوالى ألف كلمة، كشفت عن ذائقة المصرى، وحياته وتطلعاته وأغنياته وتحياته، وأمثاله الشعبية، ودعواته وابتهالاته، وتحذيراته، وما حفظه من سور وآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وآيات من الكتاب المقدس، فكان لنا من كتابه «هتاف الصامتين» ديوان حياة سجًّل فيه معتقدات المصريين، وشكاياتهم، تلك التى تنتمى بشكل أو بآخر إلى شكاوى المصرى القديم.. الفلاح الفصيح.
فماذا عن وجهات نظر المصريين فى الحياة؟، ماذا عن فلسفتهم الخاصة تجاهها؟، وكيف رسم المصريون صورة لها عن قرب، وكتبوها ونقشوها على أجساد المركبات، وردت كلمة الحياة بمعنى «العيشة» ومن أجمل أوصافها: «العيشة منجهة، والحياة أبهة»، وربما جاءت سيرة الحياة بشكل غير مباشر، وبوصف مُعجز وكأنها «شغل الزغاليل» فكتب أحدهم على مركبة يقول:
«عنيك فيك توريك شُغل الزغاليل»، ومنهم من اقتطف لحظة سارة من لحظات الحياة فيقول متفائلًا: «الميه زلال اشرب حلال آخر جمال»، أو «الحمد لله كده رضا»، أو «كده شربات»، أو يقول قائل: «ما شاء الله عليك يا هدى»، أو «يا سيدى على كده»!
أما عندما يضيق الحال فنجد أقوالًا مثل «نصيبى كده»، و«أنا مجروح من هجرك»، و«كفاية يا عين»، و«مش بنام الليل يا ليلى»، و«معلش يا زمن الهجرة غربتنا والأيام علمتنا»، و«أهى جت كده، واللى معاه كلمة يلمها»، و«حرام عليك يا عبده سيبنى فى حالى»، أما تعبيرات طمأنة النفس وتشجيع الذات فى مواجهة أمور الحياة فكانت تعبيرات بليغة كما حللت ما جمعه سيد عويس من عبارات، فوجدتها تعكس الثقة فى تدبير الله سبحانه وتعالى للأمور، ومن أشهر المأثورات: «خليها على الله»، و«خلى تكالك على الخالق»، و«سيبها لله يفعل ما يريد»، و«كل شىء بإرادته».
وإذا كانت الحياة بمعنى من المعانى هى طريق يقطعه المسافر والمقيم فإن بلاغة الحديث عن الطريق تؤكد لنا أن اعتبار الطريق حياة ليس اختصارًا مُخلا، وإنما هو بالفعل تعريف دقيق، ولذا نجد مقولات مثل «الصبر طريق السلامة» و«امش فى طريقك عدل يحتار عدوك فيك»، و«آخر طريقك فين؟»، و«طريق السلامة»، و«طريقك طريق خير وسلام يا أبو حمادة».
ومن الطريف أن الذائقة الشعبية اختارت حكمتها من الغناء أيضا فنجد عبارات من الأغنيات مكتوبة على المركبات ورصدها عويس، وكانت تعبيرًا عن هتاف الصامتين مثل: «أروح لمين؟»، و«أراك عصى الدمع شيمتك الصبر»، و«أعطنى حريتى.. أطلق يديا»، وكلها من أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، وقد اصطفت الذائقة الشعبية أيضا كلمات من أغنيات عبدالحليم حافظ، وعبدالوهاب، وليلى مراد، ونجاة الصغيرة، وعايدة الشاعر، ومحمد قنديل، ومحمد رشدى.
.. ألم أقل لك.. عبارات المصريين هى الحكمة مقطرة، ديوان حياة.. «حبيتها طلعت مرتبطة»!