الخميس 20 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

العبور الاقتصادى من الصراعات والصدمات إلى الاستقرار والانطلاق

كيف تجاوزت مصر الأزمات الجيوسياسية بالإصلاح والنمو

تحولات جذرية كبيرة شهدها الاقتصاد المصرى خلال السنوات الأخيرة، نتيجة حزمة من الإصلاحات الاقتصادية الشاملة التى وضعتها الدولة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ورغم الصراعات الإقليمية والاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة، إلا أن مصر استطاعت بناء اقتصاد مرن وقادر على التكيف، ووصلت بمعدلات النمو إلى %5 خلال الربع الأخير من العام المالى «2024 – 2025».



ورغم التحديات الإقليمية والدولية، إلا أن مؤسسات التصنيف الائتمانى الدولية، أشادت بهذا الأداء القوى للاقتصاد المصرى، إذ رفعت «ستاندرد آند بورز» تصنيف مصر إلى «B»، بينما ثبتت وكالة «فيتش» تصنيفها، وفى هذا التحليل نستعرض أبعاد هذه الإصلاحات وأثرها فى بناء اقتصاد أكثر استقرارًا واستدامة.

العبور من الأزمات

بدأت مصر، أولى خطوات الإصلاح الاقتصادى فى نهاية عام 2016، مدفوعة بضرورة معالجة اختلالات هيكلية عميقة، كانت تهدد استدامة النمو وقدرة الدولة على تلبية احتياجات مواطنيها.

وتضمنت أبرز عناصر الإصلاح، تحرير سعر الصرف، الذى أعاد التوازن إلى السوق النقدية وثقة المستثمرين فى الاقتصاد المصرى، خاصة الأجانب الذين كانوا مترددين بسبب القيود المفروضة على تحويل الأرباح.

كما تمت إعادة هيكلة منظومة الدعم، خاصة دعم الوقود والكهرباء، وهو ما ساعد على ترشيد الإنفاق العام وتوجيه الموارد إلى الفئات الأكثر استحقاقًا، فيما تم إصلاح مناخ الأعمال، من خلال إصدار قانون الاستثمار الموحد، وتحديث البنية التحتية التشريعية والإجرائية المتعلقة بتأسيس الشركات وتراخيص المشروعات.

هذه الخطوات، -رغم صعوبتها- وفرت الأساس اللازم لبناء اقتصاد أكثر انضباطًا واستدامة، وهو ما ظهر فى مؤشرات الأداء بعد سنوات قليلة من انطلاق البرنامج، فعلى سبيل المثال، انخفض عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلى من أكثر من %12 إلى أقل من %6.5، كما بدأت الديون العامة تنخفض تدريجيًا كنسبة من الناتج.

أدوات الحماية من الصدمات

كان تحرير سعر الصرف، أحد أقوى أدوات الإصلاح التى ساعدت الاقتصاد المصرى على امتصاص الصدمات، إذ كانت مصر فى الماضى تعتمد على سعر صرف ثابت نسبيًا، ما استنزف الاحتياطى النقدى، وأدى إلى خلق سوق سوداء موازية.

ومع تطبيق سعر صرف مرن، أصبحت القوى السوقية هى من تحدد سعر العملة، ما أعطى مرونة فى التعامل مع الصدمات الخارجية، كارتفاع أسعار السلع الأساسية عالميًا أو تراجع تدفقات العملات الأجنبية.

السياسة النقدية المرنة، ساعدت على زيادة التحويلات وعودة استثمارات الأجانب فى أدوات الدين المحلى، التى كانت قد تراجعت بشدة فى أعقاب الأزمات العالمية، وبحلول أكتوبر 2025، تجاوز الاحتياطى النقدى 49 مليار دولار، وهو من أعلى المستويات فى تاريخ مصر، مقارنة بنحو 15 مليار دولار فقط فى 2013.

هذا الاحتياطى الكبير، لا يوفر فقط الأمان النقدى، بل يسمح لمصر باستيراد المواد الأساسية لعدة أشهر حتى فى ظل اضطرابات دولية، ما يعزز الأمن الاقتصادى والغذائى.

«التحويلات والصادرات والسياحة».. مثلث دفع النمو

شهدت تحويلات المصريين العاملين بالخارج، والبالغ عددهم قرابة 11 مليون مصرى، نموًا مستمرًا بفضل الثقة فى الجهاز المصرفى وسياسات الدولة النقدية، إذ سجلت هذه التحويلات رقمًا قياسيًا بلغ 36.5 مليار دولار بنهاية العام المالى الماضى، وهى من أهم مصادر النقد الأجنبى.

إلى جانب ذلك، حققت الصادرات السلعية غير البترولية قفزات نوعية، مدعومة بسياسات تشجيع الإنتاج المحلى والتمويل الصناعى، إذ تجاوزت 30 مليار دولار خلال أول 6 شهور فقط من العام الجارى 2025، مقارنة بنحو 18 مليارًا فى نفس الفترة من 2016.

كما استعادت السياحة المصرية عافيتها، إذ زار مصر أكثر من 15 مليون سائح فى عام واحد، ما أسهم فى إدخال أكثر من 14 مليار دولار من الإيرادات، بدعم من مشروعات التطوير فى المناطق السياحية والترويج العالمى، بالإضافة لتحسن الوضع الأمنى.

وتمثل هذه المصادر الثلاثة، العمود الفقرى لتدفق النقد الأجنبى، ما يدعم الجنيه، ويقلل الضغط على الميزان التجارى.

ثقة المؤسسات الدولية فى مصر

لم يأتِ التحسن فى المؤشرات الاقتصادية من فراغ، بل استند إلى إجراءات حقيقية رصدتها المؤسسات الدولية بوضوح، ما انعكس على تقييماتها.

وقامت وكالة ستاندرد آند بورز فى عام 2025، برفع التصنيف الائتمانى لمصر إلى المستوى «B»، مشيدة بالإصلاحات الهيكلية وقوة الأداء المالى فى ظل تحديات عالمية غير مسبوقة.

كما ثبتت وكالة فيتش، تصنيف مصر الائتمانى، معتبرة أن البلاد تسير على طريق التعافى الاقتصادى، ولديها القدرة على الوفاء بالتزاماتها.

كذلك، أكدت تقارير من صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى، أن مصر نفذت برامج إصلاح حقيقية، وليست شكلية، وهو ما منحها دفعات تمويل جديدة وشهادات ثقة أمام المستثمرين.

نتائج هذا التحسن، تمثلت فى انخفاض تكلفة الاقتراض على السندات الدولية، بما يخفف العبء على الموازنة العامة، مع زيادة إقبال صناديق الاستثمار العالمية على أدوات الدين الحكومية، وكذلك تزايد معدلات الاستثمار الأجنبى المباشر، خاصة فى قطاعات البنية التحتية والطاقة والاتصالات.

الطريق إلى المستقبل

رغم ما تحقق من استقرار مالى ونقدى، فإن المرحلة المقبلة تركز على الانطلاق نحو تنمية شاملة ومستدامة، تشمل دعم الاستثمار، إذ تسعى الحكومة إلى جذب استثمارات أجنبية بقيمة 42 مليار دولار خلال العام المالى الحالى، مع التركيز على الصناعات التصديرية والتكنولوجية، كما تم إطلاق الرخصة الذهبية للمشروعات الكبرى، لتقليل البيروقراطية وتسهيل إجراءات الاستثمار.

دعم القطاعات الواعدة

توسعت مصر فى مشروعات الطاقة المتجددة، مثل «بنبان» للطاقة الشمسية، لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة، كما وجهت الدولة جهودها للتركيز على الصناعة المحلية، عبر مبادرة «ابدأ» لتوطين الصناعة وتوفير فرص عمل.

البعد الاجتماعى

توسعت برامج الحماية الاجتماعية، مثل تكافل وكرامة لتغطية أكثر من 4.5 مليون أسرة.

وتم رفع الحد الأدنى للأجور عدة مرات لتحسين مستوى المعيشة وتعويض تأثيرات التضخم.

قامت الدولة بتطوير شبكة الطرق والموانئ، من أجل ربط المناطق الصناعية بالمراكز اللوجيستية، فضلًا عن تحديث منظومة النقل العام والسكك الحديدية لرفع كفاءة الخدمات وتقليل الهدر.

برهنت التجربة المصرية، على أن مواجهة التحديات تبدأ بالإرادة السياسية والإصلاح الجرىء، فخلال فترة قصيرة، انتقل الاقتصاد من وضع هش إلى اقتصاد يتمتع بالمرونة والقدرة على امتصاص الأزمات.

ارتفع معدل النمو إلى %5، وتحسن التصنيف الائتمانى، وزادت الثقة الدولية، وتمكنت الدولة من تحقيق قفزات فى مصادر النقد الأجنبى الأساسية، كما استطاعت مصر أن تجعل من الإصلاح الاقتصادى فرصة لبناء نموذج تنموى جديد يحقق التوازن بين الاستقرار المالى والنمو الشامل.

واليوم، تقف مصر أمام مرحلة جديدة، عنوانها: «التحول من الإصلاح إلى الإقلاع»، مدعومة بثقة مؤسسات التمويل، والتزام الدولة، وصمود المواطن المصرى الذى كان شريكًا فى هذا النجاح.