الأحد 26 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«روزاليوسف».. 100 عام من التنوير فى مواجهة ظلام التطرف

على مدار مائة عام، لم تكن مجلة «روزاليوسف» مجرد مطبوعةٍ صحفيةٍ أو منبرٍ ثقافّى تقليدى، بل كانت سلاحًا وطنيًا فى معركة الوعى، ومؤسسةً فكريةً واجهت قوى الظلام والتطرف بكل شجاعةٍ ووعى وجرأة. 



فمنذ تأسيسها على يد السيدة فاطمة اليوسف عام 1925، وضعت «روزاليوسف» نفسها فى قلب الصراع بين التنوير والرجعية، بين صوت العقل ومشروعات الغلو التى حاولت اختطاف الدين والوطن لحساب أجنداتٍ مغلقة.

من أعدادها الأولى، أدركت المجلة أن الخطر الأكبر على الدولة الوطنية لم يكن خارجيًا فقط، بل كان داخليًا، متمثلًا فى الجماعات التى تتخذ من الدين ستارًا لتحقيق مكاسب سياسية.

كشف مخططات الإخوان

وفى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، كانت «روزاليوسف» من أوائل المنابر التى فتحت ملفات جماعة الإخوان المسلمين، محذّرةً من مشروعها السرى القائم على السمع والطاعة وتنظيم الخلايا المسلحة، فى وقتٍ كانت فيه معظم الصحف تخشى الاقتراب من هذا الملف الشائك.

كتبت «روزاليوسف» آنذاك بوضوح: «الإخوان خطر على الدولة والدين معًا»، لتدشّن أول مواجهةٍ فكريةٍ حقيقية مع الإسلام السياسى فى الصحافة المصرية.

رصدت «روزاليوسف» مخططات الإخوان منذ بدايتها لقتل رئيس وزراء مصر فهمى النقراشى باشا على يد الإخوان، فى العدد 1071 بتاريخ 22 ديسمبر 1948، بينما تناولت المجلة فى العدد 1070 صفحة 4 تفكير النقراشى باشا فى حل جمعية الإخوان عقب مقتل القاضى الخازندار، وكيف كان الإخوان يستعدّون للزحف على القاهرة، حيث كانوا يسعون إلى الاستيلاء على الحكم بطرقٍ غير مشروعة، وأن حسن البنا كان يسعى لتأليف وزارةٍ تحت حجة أن الإسلام دينٌ ودنيا، والزحف إلى مقاعد الوزارة عن طريق الإرهاب كما فعل موسولينى، إلى اليوم الذى حدّده الإخوان، وهو يومٌ من أيام شهر أكتوبر، وأنهم وضعوا خططًا للاستيلاء على المرافق العامة كالسكك الحديدية، ووضعوا خرائط ورسومًا هندسية لمواقع أسلاك التليفونات والكابلات التى تمتد تحت الأرض.

وخلال الخمسينيات، وتحديدًا قبل حادثة المنشية التى وقعت فى أكتوبر 1954، كان لمجلة «روزاليوسف» السَّبق فى تناول توتر العلاقة بين الثورة والإخوان، فى الأعداد 1373 و1374 و1375 و1376، وتناولت فى تغطيةٍ متفرّدة فى العدد 1378 صفحة 8 بتاريخ 8 نوفمبر 1954، تفاصيل عن محاولة قتل الرئيس جمال عبدالناصر، حيث كشفت عن مصاريف الإرهابيين المشاركين فى المؤامرة، والتى بلغت 1000 جنيه شهريًا، وكشفت عن حقائق قام بها المرشد العام لجماعة الإخوان الهضيبى، الذى اعترف بأن التنظيم السرى للإخوان ينقسم إلى قسمين:

أحدهما عمله المراقبة وترتيب المعلومات اللازمة، والقسم الثانى للقيام بعمليات الإرهاب، وأفراده من الفدائيين، وأن فدائيى الإخوان بعضهم من المتطوعين من طلبة المدارس والعمال وبعض الموظفين، وبعضهم الآخر من المحترفين الذين يتقاضون مكافآتٍ ومساعداتٍ من جماعة الإخوان، حيث يتكلف العضو ألف جنيهٍ كل شهر نظير المكافآت وأجور الشقق التى تُؤجَّر كأوكارٍ لأعمالهم الإجرامية.

وقد تابعت المجلة فى نوفمبر 1954م فى العدد 1378 متابعةَ المحاكمات وقراراتِ الحل، وفى العدد 1379 نشرت تفاصيلَ التحقيقات، وفى العدد 1380 رصدت ردودَ الفعل الشعبية تجاه جماعة الإخوان، وفى العدد 1381 تتبعت مصيرَ قيادات الجماعة بعد الأحكام.

وتميّزت عناوينُ المجلة بالتعبيرات والجمل القوية المعبّرة عن حالة الغدر التى مارستها جماعة الإخوان ضد الثورة، ومن أشهر هذه العناوين:

«رصاص الغدر فى ميدان المنشية» و«عبد الناصر يتحدى الرصاص».

وفى الستينيات، رصدت وحقّقت «روزاليوسف» محاكمةَ وإعدامَ سيد قطب، المنظّر الإخوانى الأشهر للتكفير فى العالم، وذلك ضمن حملتها على محاولات إعادة إحياء تنظيم الإخوان. 

كما قامت بتغطية مرافعات النيابة وشهادات المتهمين وأحكام الإعدام على سيد قطب ورفاقه، وتغطيةٍ موسّعة لتنفيذ حكم الإعدام تحت عنوان «العدالة تواجه الفكر المنحرف».

كما لم تتوقف «روزاليوسف» عن دورها النقدى، حيث فتحت أبوابها لكبار الكتّاب والمفكرين، وعلى رأسهم إحسان عبدالقدوس ومصطفى أمين وأحمد بهاء الدين، الذين كتبوا العديد من المقالات التى تفضح الفكر التكفيرى ومحاولات اختراق المجتمع عبر التعليم والمساجد والعمل الخيرى.

وكانت المجلة تضع يدها دائمًا على الجرح، معتبرةً أن التطرف يبدأ من الفكرة، وأن المعركة الحقيقية هى معركة وعىٍ وثقافة قبل أن تكون معركة أمنية.

وفى السبعينيات، ومع صعود التيارات الإسلامية المتشددة فى الجامعات، عادت «روزاليوسف» لتكون فى الصفوف الأمامية للمواجهة، محذّرةً من نتائج خلط الدين بالسياسة، وكاشفةً عبر تحقيقاتٍ موثّقة عن التنظيمات التى كانت تستعد لاستخدام العنف باسم الدين. ولم تتراجع عن دورها رغم حملات التشويه والتهديد، وظلت تمارس دورها فى «تحصين المجتمع» ضد الفكر المنغلق الذى كان يهدّد وحدة الوطن وهويته المدنية.

أما فى الثمانينيات والتسعينيات، فقد كانت المجلة ساحةً فكريةً كبرى فى مواجهة الإرهاب المسلّح الذى ضرب مصر آنذاك.

قدّمت ملفاتٍ متكاملة عن تنظيمات «الجهاد» و«الناجون من النار» و«الطليعة المقاتلة»، وكشفت بالأسماء والوثائق مخططاتِ اغتيال المثقفين ورجال الأمن والسياسة.

ومع تمدّد خطر «الإسلام السياسى» عقب ما يُسمّى ثورات الربيع العربى، وعودة الجماعة إلى المشهد السياسى، عادت «روزاليوسف» لتلعب دورها التاريخى مجددًا، فكانت منبرًا للدفاع عن الدولة الوطنية ومؤسساتها، وكشفت الوجه الحقيقى للجماعة خلال فترة حكمها عام 2012، التى فرضت فيها الاستبداد على الوطن باسم الدين.

وخاضت معارك فكريةً ضارية ضد محاولات «أخونة» مؤسسات الدولة وتغيير هوية المجتمع، وعندما تصدّى الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013 لمحاولة خطف الوطن، كانت «روزاليوسف» فى مقدمة الصفوف، تنحاز بوضوح إلى الدولة المدنية والدستور والقانون.

قائدة معارك التنوير

الخبير فى شئون الجماعات المتطرفة ثروت الخرباوى يعتبر أن «روزاليوسف» قادت على مدار مائة عام معركة الوعى ضد التطرف والتكفير واحتكار الدين، وأنها لم تتعامل مع ظاهرة الإسلام السياسى كخلاف على السلطة، بل كصراع بين النور والظلام، بين العقل المستنير والخطاب الإقصائى الذى أراد احتكار الدين وتكفير المجتمع. 

ويتابع: كانت ترى أن الخطر الحقيقى لا يكمن فى التنظيمات بقدر ما يكمن فى الفكر المغلق الذى يصنع منها جماعات تسعى إلى مصادرة الوعى، ومن هنا جاءت خصوصية معالجتها، إذ لم تكتفِ بالتناول الأمنى أو السياسى كما فعلت مؤسسات أخرى، بل غاصت فى عمق الفكرة، تُفكِّك النصوص والخطابات، وتكشف آليات التضليل التى يستدرج بها «المتأسلمون» عقول الشباب. وكانت تمارس الصحافة بوصفها تنويرًا لا نقلًا للخبر، وتكتب لتفتح نوافذ الوعى قبل أن تملأ الصفحات.

التمييز بين الإيمان واستغلال الدين كان خطًا فاصلًا حافظت عليه «روزاليوسف» بدقة، كما يوضح الدكتور ثروت الخرباوى أنها حاربت «المتأسلمين دون أن تحارب الإسلام»، لأنها أدركت أن معركتها الحقيقية ليست مع العقيدة، بل مع من اتخذها وسيلة للهيمنة.

واحتفت صفحاتها بروح الإسلام المستنير، واستدعت تراث ابن رشد ومحمد عبده، ودافعت عن قيم التسامح والعقل والحرية، لتؤكد أن الدين فى جوهره دعوة للتفكير لا للتلقين، على حد قوله.

 فى المقابل، كانت تواجه خطاب «المتأسلمين» بالحجة والمنطق، تكشف تناقضاتهم مع جوهر الدين نفسه، دون أن تقع فى فخ العداء أو الاستفزاز، وهذا هو سر قوتها، إذ وضعت نفسها دائمًا فى صف الإيمان الصحيح لا فى مواجهة المقدس.

الاستقلال الفكرى ظل العلامة الفارقة التى ميَّزت شخصية «روزاليوسف» عبر العصور، وهو ما يشير إليه الخرباوى بوصفه سر خلودها. فهى لم تكن مجرد مجلة، بل فكرة خرجت من رحم الجرأة التى غرستها مؤسستها فاطمة اليوسف، تلك المرأة التى كسرت القوالب، وآمنت بحرية العقل والفن والضمير، على حد تعبيره.

يتابع: ومن هذه الروح انبثق خطها التنويرى القائم على ثلاث ركائز: الإيمان بحرية الفكر والتعبير حتى فى وجه السلطة، والدفاع عن الدولة المدنية الحديثة فى مواجهة التسلط الدينى أو الشمولى، والرهان على وعى القارئ المصرى باعتباره شريكًا فى صناعة الوعى لا مجرد متلقٍّ سلبى.

ويختتم: لهذا، ورغم تبدل الأنظمة وتغيّر السياسات، ظلت «روزاليوسف» وفية لجوهرها: منحازة للعقل، حارسة للنور، تقف فى الجانب المضىء من التاريخ، تؤمن أن الصحافة ليست مهنة الحياد البارد، بل رسالة التنوير والدفاع عن العقل المصرى الذى كان وسيبقى خط الدفاع الأول ضد كل ظلام.

كابوس الإخوان

الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية والقيادى السابق فى جماعة الإخوان طارق أبو السعد يؤكد أن اسم «روزاليوسف» لم يكن مجرد عنوان لمجلة شهيرة، بل كان الكابوس الذى يخشاه الإخوان مع صباح كل موعد صدور جديد، فلم تكن مجرد مجلة يقرأها القراء فقط، بل كانت الكاشفة لأسرار الإخوان والتيار الإسلامى المتطرف، والمصباح الذى أضاء مناطق ظل أرادوا أن تبقى مغلقة ومحجوبة عن أعين الناس. 

ويتابع: فى مطلع التسعينيات، خاضت معاركها التنويرية بشجاعة، لتؤسس وعيًا وطنيًا حرًا قادرًا على مواجهة أفكار التطرف والانغلاق. 

ويوضح أنه لم يكن قد غادر الجماعة بعد، وكان يتابعها بشغف، ولا أزعم أنى كنت سعيدًا بما تتناوله من موضوعات تخص الإخوان، لكنى كنت مشدودًا، مسلوب الإرادة، وأنا أشترى العدد تلو الآخر لأقرأ ما يكتبه كُتّابها عن الجماعة.

أبو السعد يشير إلى أن الجماعة كانت تعقد لقاءات «وضوح الرؤية» لمناقشة ما تنشره روزاليوسف، سواء حول الانتخابات الداخلية لمكتب الإرشاد أو الخطط السرية التى كانت تُروى لنا كأنها أسرار حديدية لا يمكن لأحد الاطلاع عليها، فإذا بها منشورة على مرأى من المصريين جميعًا. وكانت تلك هى البداية، وكل مقال كنت أقرأه كان يدفعنى للذهاب سرًا إلى أحد قادة الإخوان لأطرح عليه عشرات الأسئلة التى فجّرتها «روزا» فى داخلى. شيئًا فشيئًا، بدأت بذور الوعى تنبت: أولها أن تسأل، وثانيها أن تبحث عن الإجابة، وبعدها تقرر. وكانت تلك الخطوات الأولى فى رحلة الخروج من أسر التنظيم.

يقول طارق أبو السعد: «أزعم بلا شك أن ما نشرته «روزاليوسف» ترك أثرًا بالغًا فى داخلى، وساهم مع آخرين فى تكسير قيد التنظيم والإيمان الأعمى بالجماعة. لقد علمتنى أن أرى، وألا أكتفى بما يُقال لى.

ساحة فكرية دائمة الاشتعال

ويصف الباحث فى شئون الحركات الإسلامية عمرو فاروق «روزاليوسف» بأنها لم تكن مجرد مجلة سياسية أو منبر صحفى تقليدى، بل كانت ساحة فكرية دائمة الاشتعال، تدير معركتها ضد الإسلام السياسى من موقع الوعى، لا من خندق الصراع السياسى أو الأمنى. 

يستكمل: منذ نشأتها، قرأت الظاهرة فى سياقها الطبيعى كقضية فكرية وثقافية تمس جوهر الهوية المصرية وتاريخها الممتد فى الاعتدال والوسطية. وأدركت أن المواجهة مع تيارات التأسلم ليست معركة سلطة، بل معركة وعى، وأن الخطر الحقيقى يكمن فى احتكار الخطاب الدينى وتزييف الوعى الجمعى باسم العقيدة والشريعة. ومن هنا خاضت «روزاليوسف» معركتها بقلمها وفكرها، فعَرّت المنطلقات الفكرية للجماعات الأصولية، وناقشت أفكارهم بالحجة، وقدمت خطابًا إصلاحيًا يجمع بين الإيمان والعقل، والدين والدولة، والتدين الحقيقى والتنوير الواعى.

السر فى تفردها –كما يؤكد عمرو فاروق– أنها حاربت «المتأسلمين دون أن تحارب الإسلام»، ولم تقع فى فخ العداء للدين كما أراد خصومها، بل ميّزت بوضوح بين الإسلام كمنظومة قيم روحية وإنسانية، وبين من اتخذوه مطية لمصالحهم السياسية.

وبحسب عمرو فاروق، فإن «روزاليوسف» كانت من أوائل من أدركوا مبكرًا خطر توظيف الدين فى السياسة، قبل أن تتكشف للعالم نتائجه الكارثية، ورصدت المشروع السياسى للجماعات الأصولية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان، منذ بداياتها، وكشفت مخططاتها فى اختراق المجتمع وبناء حواضن فكرية يمكن السيطرة عليها، وحذّرت من المتاجرة بالدين وجعله وسيلة لجنى مكاسب سياسية وتجارية، ومن خطر تغلغلها فى مفاصل الدولة. وفى مقالاتها الافتتاحية ورسومها الكاريكاتورية الشهيرة، نبّهت إلى أن الاستبداد الدينى لا يقل خطرًا عن الاستبداد السياسى، وأن تديين السياسة ليس سوى طريق إلى الاستقطاب وصناعة الفتنة والانقسام المجتمعى.

 روزا داخل معاقل الجماعة

يقول سامح فايز الباحث فى شؤون الجماعات الإسلامية، إنه عرف «روزاليوسف» قبل أن يمسك بها أو يقرأها، وكانت حاضرة بين تجمعاتنا فى الإخوان بسبب موضوعاتها التى اخترقت جدران الجماعة، وأن كل عضو داخل التنظيم حمل لها رفضًا شديدًا باعتبارها حجر عثرة معرفية فى طريق تمدد الجماعة. وفى مرحلة لاحقة، وبعد تركى للجماعة، بدأت فى اقتنائها ومتابعة القضايا الصحفية التى فجّرتها، وفى تلك اللحظة أدركت بشكل أعمق لماذا خافت جماعة الإخوان من الصحافة عمومًا، وفى المقدمة منها «روزاليوسف». 

يتابع: لا أستطيع أن أنسى فى تلك المسألة الحملة الصحفية التى قادتها المجلة فى حياة رئيس التحرير الراحل عبدالله كمال، فى الوقت الذى عجز الجميع عن إدراك خطر هؤلاء مستقبلًا، ولم يتكشف إلا بعد عقدين من الزمان، وأصبح الجميع يدركه بشكل واضح الآن. كما أشار فايز إلى أنها استطاعت الحفاظ على ثوابتها التنويرية بالرغم من تبدل العصور والأنظمة السياسية، وهى مسألة لا تحتاج إلى إثبات أو دليل، سوى أن تقرأ مطبوعات «روزاليوسف» المختلفة عبر السنين، فلن تجد سوى سياسة تحريرية واضحة وثابتة، عمادها التنوير ومواجهة الرجعية بكل صورها الدينية والمجتمعية والثقافية.