القانون يطبق على الجميع
حضارة أساسها العدل والتكافل وحقوق الإنسان
«لا تزال الحضارة المصرية تبهر العالم فهى حضارة أساسها العدل والقانون وحقوق الإنسان والعمارة والفنون والمجالات التشريعية والقضائية على وجه الخصوص، فالميزان رمز العدالة انتقل من الحضارة المصرية القديمة إلى العالم لذلك فإن القانون المصرى الحديث ليس مقطوع الصلة بسلفه القديم، بل إنه يبدو فى أحيان كثيرة أن القانون الحالى ثمرة ناضجة لبذور أو جذور عريقة راسخة فى أعماق التاريخ»، هذه الخلاصة كانت موضوعا لرسالة ماجستير متميزة للباحثة منال محمود محمد محمود، بعنوان «الجريمة والعقوبة فى مصر القديمة»، حيث تتضمن دراسة عن القانون والتى تتبعت أول نظام قانونى سیاسی مستقر تحت إشراف حكومة مركزية واحدة منذ حوالى 3000 عام قبل الميلاد، واتخذت من «منف» عاصمة لها.
«لدينا أدلة كثيرة على محاكمات عُقدت بمصر القديمة، خاصة التى كانت تحكم فى قضية الخيانة والمؤامرات، فمن أمثلة تلك القضايا ما ذكره لنا «وني» أحد كبار رجال الدولة فى عهد الأسرة السادسة فيما أورد من سيرته الذاتية بمقبرته بأبيدوس، وثمة مؤامرة أخرى على رمسيس الثالث من نسائه ذكرت فى بردية تورين، ولم يكن لمثل تلك الجرائم عقوبة سوى الموت بغض النظر عن الوضع الاجتماعى للجاني»، هذا ما قاله الدكتور زاهى حواس، عالم الآثار، وزير الآثار الأسبق، لـ «روزاليوسف».
يضيف حواس: «تعتبر محاكمات دير المدينة من أشهر المحاكمات التى تحكى لنا طبيعة المعاملات بين تلك الفئة من الشعب، فيوجد بتلك الوثائق التى تعود إلى دير المدينة العديد من القضايا التى كانت تستوجب عقوبة على المذنب».
ويوضح أن الملك كان هو الشخص الوحيد القادر على إعطاء التعليمات للوزير نحو ضرورة أن يحكم بالماعت -ماعت هى إلهة الحق والعدل والنظام فى الكون عند المصريين القدماء- ومن أمثلة ذلك؛ تلك التوصيات التى أعطاها الملك تحتمس الثالث لوزيره رخمى رع.
رسالة الباحثة منال محمود تضمنت دراسة مهمة عن القانون، والتشريعات التى سنها المصرى القديم، بل وإجراءات التقاضى وأعضاء المحكمة، ومن ثم العقوبات التى كانت تفرض على المذنب من عقوبات جسدية مثل الإعدام، وعقوبات الضرب والجلد، والعقوبات المقيدة للحريات مثل السجن والنفى بل وأيضاً أسماء العقوبات ومفهومها فى اللغة المصرية القديمة، كما بينت الدراسة الوجود المؤكد للقانون فى مصر القديمة من خلال إشارات تاريخية عديدة، إذ كان يقوم على تنفيذ هذا القانون هيئات قضائية مركزية ومحلية تفرقت فى أنحاء البلاد،ويرأسها الوزير الذى كان يحضر جلسات المحكمة المركزية.
رعاية الأطفال وكبار السن
لم تكن الحضارة المصرية العظيمة التى بزغت على ضفاف النيل وليدة سلطة حاكمة قوية فحسب، بل نتاج شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية التى تطورت على مدى آلاف السنين، فقبل أن يُرفع صولجان الملك نارمر معلناً توحيد القطرين، كانت بذور التكافل المجتمعى والعدالة الاجتماعية قد زُرعت ونمت فى تربة المجتمع المصري، مُشكلةً الضمير الجمعى الذى قامت عليه الدولة، وهو ما كان محور حديثنا مع الدكتورة دعاء سيد باحثة متخصصة فى آثار ما قبل التاريخ بوزارة السياحة والآثار.
تقول الدكتورة دعاء سيد «فى العصور الحجرية القديمة، كانت حياة الإنسان البدائى على الأرض المصرية قائمة على الصيد وجمع الثمار فى جماعات صغيرة ومترابطة، هنا، كان التكافل ضرورة للبقاء لا خيارًا، لمواجهة المصير المشترك، لقد كانت مطاردة الحيوانات سواء الكبيرة أوالصغيرة تتطلب تعاونًا وتنسيقًا بين أفراد المجموعة، وكان النجاح يعنى طعامًا وكساء للجميع. كما لم يكن لمفهوم الملكية الفردية وجود يُذكرحيث كان لابد من تقاسم الموارد مما يتم جمعه من ثمار أو صيده من طرائد ليُقتسم بين أفراد الجماعة لضمان استمرارية الجميع».
من ناحية أخرى فقد مارست تلك الجماعات الرعاية الجماعية، حيث كانت رعاية الأطفال وكبار السن مسئولية مشتركة، فهُم ذاكرة الجماعة ومستقبلها. بالإضافة للاهتمام بدفن الموتى ووضع محتويات بسيطة معهم ليأخذوها إلى عالمهم الآخر . أما العدالة فى هذه المجتمعات فكانت فطرية وبسيطة، تستند إلى العرف والتقاليد. لم تكن هناك قوانين مكتوبة، بل كانت الأعراف هى التى تحكم العلاقات وتفض النزاعات، وغالبًا ما كان حكماء القبيلة أو كبارها هم من يقومون بدور الوسطاء لضمان عدم تفكك الجماعة.
معرفة الزراعة .. وبوادر العدالة الاجتماعية
مع معرفة الزراعة فى العصر الحجرى الحديث، تغير وجه الحياة على الأرض المصرية. لقد أدى الاستقرار فى قرى زراعية دائمة إلى ظهور أشكال جديدة وأكثر تعقيدًا من التكافل وهو تكافل الاستقرار. لقد تطلبت هذه المرحلة إقامة مشاريع مشتركة حيث كان شق قنوات الرى الصغيرة وحماية الأراضى من الفيضان يتطلب جهدًا جماعيًا منظمًا لا يمكن لفرد واحد أن يقوم به، كما كان هناك تنظيم لمكان الأكواخ والمساكن وتوزيعها، بالإضافة لعمل صوامع الغلال الجماعية -المطامير- والتى كشفت عنها أعمال الحفائر فى مواقع مثل «مرمدة بنى سلامة» و«الفيوم»، واختيار أماكن مركزية آمنة لها بالقرية. هذا المخزون لم يكن فقط للاستهلاك الفردي، بل كان بمثابة تأمين جماعى ضد مواسم الجفاف، مما يجسد أسمى صور التكافل المجتمعي، وهو ما رسخ مبدأ العمل المشترك من أجل المصلحة العامة.
لقد بدأت تظهر، فى هذه القرى، بوادر العدالة الاجتماعية بشكل أكثر وضوحًا مع ظهور الملكية المحدودة للأرض واستئناس وتربية الحيوانات، فقد نشأت الحاجة إلى قواعد لتنظيم العلاقات بين الجيران وفض النزاعات حول الممتلكات. هنا برز دور زعيم القرية أو الكاهن، الذى لم تكن سلطته قائمة على القوة فقط، بل على قدرته على تحقيق العدل بين الناس والحفاظ على السلم المجتمعى. كان يُنظر إلى حكمه العادل على أنه ضمانة لاستمرار رضا المعبودات وبالتالى استمرار الخير والرخاء.
بعدها وفى فترة عصر ما قبل الأسرات وهى الفترة التى سبقت التوحيد مباشرة، نمت القرى لتصبح مدنًا ومراكز قوى إقليمية (مثل نقادة، وهيراكونبوليس)، ومع زيادة التعقيد الاجتماعى وظهور طبقة النخبة الحاكمة، تطورت مفاهيم التكافل والعدالة لتأخذ شكلاً مؤسسيًا.






