السبت 8 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

من الفلاح إلى المقاول.. 90 صناعة تربح مع كل سائح

ثمار «الهرم الرابع» التى سيجنيها المواطن والاقتصاد المصرى

بافتتاح المتحف المصرى الكبير رسميًا عند أقدام الأهرامات، لم تُفتح فقط قاعات العرض الأثرى، بل فُتحت أمام مصر أبوابُ مرحلةٍ اقتصاديةٍ جديدة.



الحدث الذى تابعه العالم من القاهرة لم يكن احتفالًا ثقافيًا فحسب، بل إعلانًا عن ميلاد مركزِ جذبٍ سياحى واقتصادى ضخمٍ سيُغيِّر خريطةَ السياحة فى الشرق الأوسط وإفريقيا.

5 ملايين سائح إضافى

منذ اللحظة الأولى لافتتاحه، تحوَّل المتحف إلى أيقونةٍ عالميةٍ تجمع بين عظمة التاريخ المصرى القديم وروح الحداثة فى التصميم والإدارة والخدمات الذكية. ومع تدفّق مئات الآلاف من الزوار خلال الأسابيع الأولى، بدأت ملامحُ التأثير الاقتصادى تظهر بوضوح.

تشير التقديرات إلى أن الافتتاح التاريخى للمتحف سيؤدى إلى جذب خمسة ملايين سائحٍ إضافى سنويًا، لترتفع أعداد الزائرين إلى 20 مليون سائح بحلول عام 2026، بعد أن بلغ عددهم نحو 17 مليون سائح فى عام 2024.

وبحسب تقديرات وزارة التخطيط، بلغت إيرادات السياحة 15 مليار دولار بنهاية عام 2024، ومع زيادة عدد السياح بنحو خمسة ملايين، من المتوقع أن ترتفع الإيرادات بنسبة 25% على الأقل، أى ما يعادل 3.7 إلى 4 مليارات دولار إضافية سنويًا.

هذه الزيادة الكبيرة فى التدفقات الدولارية تعنى الكثير للاقتصاد المصرى:

تعزيز احتياطى النقد الأجنبى وتقليل الضغط على العملة المحلية، وزيادة إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم السياحية، وتنشيط الاستثمار فى الفنادق والطيران والنقل والخدمات.

وبلغة الأرقام، فإن كل سائحٍ إضافى ينفق فى المتوسط ما بين 700 و800 دولار خلال زيارته، ما يجعل الخمسة ملايين سائحٍ الجدد يضيفون نحو 4 مليارات دولار مباشرةً للاقتصاد، بخلاف الآثار غير المباشرة على الصناعة والتجارة والزراعة.

90 صناعة تتحرك مع كل سائح

افتتاح المتحف لم يُنعش فقط الحركة السياحية، بل أعاد الحياة إلى أكثر من 90 صناعةً ترتبط بالقطاع السياحى بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

فالسائح لا يأتى بمفرده، بل يحمل معه طلبًا هائلًا على الغذاء والمواصلات والإقامة والترفيه والهدايا والمنتجات المحلية، وهكذا بدأ دورانُ عجلةِ الاقتصاد من جديد: المزارع يزرع أكثر لتلبية احتياجات الفنادق والمطاعم، والمصانع ترفع إنتاجها من الأغذية والمشروبات والمنسوجات، وورش النجارة والحدادة تعمل على تجهيز الفنادق الجديدة، وشركات المقاولات والحديد والأسمنت تُنفِّذ مشروعاتٍ توسعيةً لاستيعاب الطلب السياحى المتزايد.

إنها سلسلةٌ اقتصاديةٌ مترابطةٌ تجعل من كل زيارةٍ لمتحف الحضارة القديمة فرصةً لخلق رزقٍ جديدٍ لملايين المصريين فى كل القطاعات.

كيف يخدم المتحف الفلاح المصرى؟

قد يبدو الارتباط بين المتحف والزراعة غير مباشر، لكن الانعكاس الاقتصادى على الفلاح واضحٌ تمامًا.

فكل زيادةٍ فى عدد السائحين تعنى زيادةً فى استهلاك الغذاء داخل الفنادق والمطاعم السياحية، وبالتالى ارتفاع الطلب على المنتجات الزراعية المحلية.

تُقدّر وزارة الزراعة أن كل مليون سائحٍ إضافى يرفع الطلب على المنتجات الغذائية بنسبة 3 إلى 4%. 

ومع دخول 5 ملايين سائحٍ إضافيين، يُتوقع أن يرتفع الطلب المحلى على الخضروات والفواكه والحبوب واللحوم ومنتجات الألبان بنسبةٍ تتجاوز 20% خلال عامين.

هذا النمو فى الطلب دفع العديد من سلاسل الفنادق إلى التعاقد المباشر مع الجمعيات الزراعية فى محافظات البحيرة والفيوم والمنيا لتوريد منتجاتٍ طازجةٍ بجودةٍ عالية، ما يعنى زيادة دخل الفلاح وتقليل الاعتماد على المستورد.

وللمرة الأولى، يشعر الفلاح بأن السائح الذى يزور المتحف فى الجيزة يُسهم فى تحسين دخله فى الريف، عبر منظومةٍ اقتصاديةٍ مترابطةٍ تبدأ من الحقل وتنتهى على موائد الفنادق.

طفرة فى الفنادق والمطارات

الطفرة السياحية التى أطلقها افتتاح المتحف خلقت طلبًا هائلًا على البنية الفندقية، ما أدى إلى انطلاق موجةِ بناءٍ جديدةٍ فى القاهرة والجيزة والبحر الأحمر وشرم الشيخ.

وتشير بيانات وزارة السياحة إلى أن مصر بحاجةٍ إلى إضافة أكثر من 50 ألف غرفةٍ فندقيةٍ جديدة خلال العامين المقبلين لاستيعاب الزيادة المتوقعة فى أعداد السياح.

هذه المشروعات الضخمة حرّكت السوق العقارية والبنائية بكل عناصرها:

شركات المقاولات تعمل على قدمٍ وساقٍ لتنفيذ المشروعات الفندقية والسياحية الجديدة، وشركات الحديد والأسمنت والسيراميك تشهد طلبًا متزايدًا، والنجارون والدهانون ومصانع الأثاث حصلوا على عقودٍ لتجهيز المرافق والفنادق الجديدة.

وفى موازاة ذلك، تشهد المطارات المصرية نقلةً نوعيةً فى الطاقة الاستيعابية، خصوصًا مطار سفنكس الدولى القريب من المتحف، الذى أصبح بوابةً رئيسيةً لاستقبال الرحلات السياحية من أوروبا وآسيا.

كما يجرى العمل على توسعة مطارات القاهرة والغردقة وشرم الشيخ لتواكب الطفرة السياحية المنتظرة.

هذه الاستثمارات فى البنية التحتية لا تخدم السياحة وحدها، بل ترفع كفاءة الاقتصاد المصرى ككل، وتوفّر مئات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.

السياحة قاطرة للتنمية المحلية

لم يقتصر تأثير افتتاح المتحف على القاهرة وحدها، بل امتد إلى المحافظات كافة، من الأقصر وأسوان إلى الإسكندرية وسيناء.

فالسائح الذى يأتى لمشاهدة كنوز توت عنخ آمون فى المتحف المصرى الكبير غالبًا ما يمدّ إقامته لزيارة باقى المدن الأثرية، ما يُنشّط النقل الداخلى والفنادق المحلية والحرف التقليدية.

كما أطلقت محافظاتٌ عدة مساراتٍ سياحيةً جديدة تربط زيارات المتحف بالرحلات إلى وادى الملوك والأقصر وأسوان والواحات، ما منح فرصةً حقيقيةً لآلاف الأسر التى تعتمد على الحرف اليدوية والمأكولات المحلية.

لقد تحوّل المتحف المصرى الكبير إلى مركز إشعاعٍ سياحى وتنموى يمتد تأثيره من العاصمة إلى الريف والصعيد، حاملًا معه مفهومًا جديدًا للسياحة كقاطرةٍ للتنمية الشاملة.

نحو رؤية 2030

افتتاح المتحف ليس نهايةَ المطاف، بل الانطلاقةَ الكبرى نحو تحقيق رؤية مصر 2030، التى تستهدف جذب 30 مليون سائحٍ سنويًا.

الزخمُ العالمى الذى أحدثه الحدثُ فتح الباب أمام استثماراتٍ جديدةٍ فى السياحة الثقافية والترفيهية والعلاجية والبيئية، ليصبح القطاع أكثر تنوعًا واستدامة.

تعمل الحكومة حاليًا على برامج تدريبٍ واسعةٍ لرفع كفاءة العاملين فى القطاع السياحى، بالتعاون مع القطاع الخاص، بهدف تحسين جودة الخدمات وزيادة متوسط إقامة السائح من 8 ليالٍ إلى 12 ليلةً بحلول عام 2030.

هذه الزيادة وحدها كفيلةٌ بمضاعفة إنفاق السائح الواحد ورفع العائد القومى دون الحاجة إلى زيادة الأعداد فقط.

المتحف المصرى الكبير، الذى يقف شامخًا فى حضن الأهرامات، أصبح رمزًا للربط بين التاريخ والاقتصاد، فكل قطعةٍ أثريةٍ تُعرض فيه لا تحكى فقط قصةَ ملوك الفراعنة، بل تفتح أيضًا بابَ رزقٍ جديد لعاملٍ أو فلاحٍ أو حرفى أو مرشدٍ سياحى.

المتحف يجسد فكرةَ أن الثقافة يمكن أن تكون استثمارًا، وأن الحفاظ على التراث لا يتعارض مع التنمية، بل يقودها.

لقد تحوّلت الحضارة المصرية القديمة إلى قوةٍ اقتصاديةٍ ناعمةٍ تجذب ملايين الزوار، وتنعش الاقتصاد الوطنى، وتمنح صورةً جديدةً لمصر على الساحة العالمية.