حلمى النمنم: الحضارة المصرية القديمة أثرت فى العالم علميا وفنيا وأدبيا
مثقفون: المتحف المصرى الكبير يعزز البناء المعرفى ويساهم فى تنمية الوعى الوطنى
مروة مظلوم
حالة من الحب والفخر والاعتزاز بالهوية سبقت افتتاح المتحف المصرى الكبير.. حيث انطلق المصريون يخلدون لحظاتهم السعيدة فى الترويج للحدث التاريخى فيديوهات ترويجية للزوار والأثريين من داخل المتحف وأخرى توثيقية للآثار باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعى فضلًا عن موجة صورتك بالزى المصرى القديم معتمدين على الـ Ai فى صناعة صور لهم داخل أروقة المعابد المصرية وداخل المتحف وعلى كرسى العرش..عاد المصريون ملوكًا للأرض فى ثوب أجدادهم.. وصاروا يبحثون للمرة الأولى عن وصفهم فى لغة الأجداد وكلمات الأناشيد ومعانيها وترانيمهم وأزياءهم وأسرار الحضارة التى أبهرت وما زالت تبهر العالم ويتوافد عليها الناس من كل حدب وصوب فقط للنظر إليها من خلف حواجز زجاجية يتأملونها فى جلال.. فهل ستشهد الفترة المقبلة وعيًا حقيقيًا من المصريين بقيمة تاريخهم وترجمة هذا الوعى على أرض الواقع.
من قلب الزحام
يمكنك أن تلمس الحالة التى يعيشها المصريون من أمام شباك التذاكر والتلاحم بينهم وبين الأجانب فى محاولة للحصول على تذكرة قبل أن تكتمل القدرة الاستيعابية للمتحف وبمجرد أن تخطو إلى داخل البهو المهيب الذى لا مكان فيه لقدم رغم اتساعه يمكنك سماع عبارة «صورنى مع جدى».. كبار وصغار مصريون وأجانب الجميع يلتف حول تمثال رمسيس الضخم يسعى لصورته الأولى مع أعظم ملوك التاريخ.
بداخل قاعات العرض يمكنك أن تشاهد شغفًا فى العيون افتقده المصريون منذ زمن بسبب ضغوط الحياة. يمكنك رؤية عيونهم تلمع فخرًا أو فرحًا هم فى الحقيقة يكتشفون أنفسهم من جديد أسئلة لا متناهية من الكبار والصغار لا تكفيهم اللوحات التعريفية لكل قطعة بل ويربطون بين حياة أجدادهم فى الماضى وروتينهم اليومى ويربطون بمقارنات.
الملك الذهبى
عزيزى زائر قاعة الملك الذهبى توت عنخ آمون عليك أن تستعد لجولة وسط كنوز الماضى حرفيًا فالحلى والملابس وقنينات العطر وأوانى الطعام والأسِرة وكراسى العرش كنوز ومقصورات الملك والملكة كنوز، أعين السياح تكاد تلتصق بالزجاج شغفًا وانبهارًا بكل قطعة معروضة حتى تقودك قدماك إلى تجمع حافل وزحام حيث قناع الملك الذهبى فتضطر للوقوف فى طابور حتى تصبح فى مواجهته وجهًا لوجه لوحة من الإبداع.. حقًا أجدادنا مبدعون مصدر إلهام لأعظم الفنانين والنحاتين فى العالم لم ولن يصلوا إلى هذا القدر من الدقة.
فكرة إنشاء المتحف
وعن أثر افتتاح المتحف الكبير فى زيادة الوعى وثقافة المصريين بتاريخهم وحضارتهم القديمة يقول حلمى النمنم الكاتب الكبير ووزير الثقافة الأسبق أنه من المؤكد للحدث بالغ الأثر فى نفوس المصريين فكرة إنشاء المتاحف الوطنية فى مصر منذ قديم الأزل هى نتاج حالة من الوعى واليقظة والاهتمام بالهوية الوطنية لشعب وانتماء المواطن المصرى لحضارة عظيمة أثرت فى العالم كله علميا وفنيا وأدبيًا وفكرة المتاحف فى العالم تأسست لهذا الأمر.
والمتحف المصرى تحديدًا تعود فكرة إنشائه إلى عهد محمد على حيث أصدر مرسومًا فى 15 أغسطس 1835 فى محاولة لوقف خروج الآثار من مصر، والذى أسفر عن إنشاء أول متحف مصرى للآثار فى القاهرة يقع فى مبنى بالقرب من حديقة الأزبكية، صمم سيناريو العرض حكيكيان أفندى، وتولى يوسف ضياء أفندى إدارة هذا المتحف، وفى الوقت نفسه، أمر الشيخ رفاعة الطهطاوى، المسئول عن أعمال التنقيب عن الآثار المصرية والمحافظة عليها، بعدم إجراء المزيد من الحفائر دون إذنه، وأعلن أن خروج القطع الأثرية من مصر ممنوع منعا باتا، وأنه سيتم نقل جميع المكتشفات إلى متحف الأزبكية.

وتم نقل القطع الأثرية كاملةً من الأزبكية إلى إحدى القاعات داخل قلعة صلاح الدين فى عهد عباس الأول عام 1851، حيث كانت الزيارة متاحة فقط لبعض كبار الزوار، وفى عام 1854 وأثناء زيارته لمصر زار متحف الأزبكية ولى عهد النمسا ماكسيميليان الذى أبدى اهتمامًا كبيرًا بتلك المجموعة، فقام حاكم مصر فى هذا الوقت بإهدائه معظم هذه المجموعة، وتمثل الآن جزءًا كبيرًا من مجموعة الآثار المصرية القديمة فى متحف تاريخ الفن فى فيينا.
وبعد المتحف المصرى أعقبه المتحف الإسلامى والقبطى والمتحف اليونانى الرومانى فى الإسكندرية يحوى معروضات وآثارا للحقبة التاريخية التى يمثلها.
ويؤكد النمنم أنه كانت هناك ضرورة ملحة لإنشاء المتحف المصرى الكبير فالمتحف المصرى فى التحرير لم تكن قدرته الاستيعابية تسمح بعرض كافة القطع الآثارية والتى كان يتم الاحتفاظ بها فى المخازن وتعرض بالتبادل وهو ما كان يؤثر سلبًا على السياحة فجاءت فكرة المتحف الكبير فى التسعينيات وتبناها الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة وعهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك آن ذاك وفى عام 2002، أعلنت مصر برعاية منظمة «اليونسكو»، والاتحاد الدولى للمهندسين المعماريين، تنظيم مسابقة معمارية دولية لتصميم المتحف المصرى الكبير، وفى مايو 2005 بدأ تنفيذ المشروع، وفى عام 2006 وُضع حجر أساس آخر لصرح مهم داخل المشروع، وهو أكبر مركز لترميم الآثار فى الشرق الأوسط، الذى خُصص لترميم وحفظ وصيانة وتأهيل القطع الأثرية المنتقاة لعرضها فى قاعات المتحف، وجرى افتتاح المركز رسميًّا عام 2010، ليشكل ركيزة فنية أساسية تدعم المشروع بأكمله وفى عام 2014 تم البدء فى تنفيذه فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى فكان لا بد من أن تقدم مصر الكتالوج الوطنى لها متمثلًا فى المتحف المصرى الكبير وأعمال أخرى.
وفى عام 2017، تم الانتهاء الكامل من الهيكل الخرسانى والمعدنى لمبانى المتحف بنسبة 100%، وتسجيل القطع الأثرية على قواعد البيانات الخاصة بالمتحف، فى خطوة بالغة الأهمية لتوثيق المقتنيات وتنظيم العرض.
ويرى النمنم أن الحدث وأثره فى نفوس المصريين سيكون له تأثير مباشر فى عالم الأزياء وحركة الموضة وهو ماتمثل فى احتفاء المصريين بالمتحف على مواقع التواصل الاجتماعى بزى ملوك مصر القديمة.
التأثير التراكمى
أما د.أمانى فؤاد الناقدة الأدبية فترى أن لافتتاح المتحف الكبير أثرا تراكميا كأى نشاط ثقافى يؤثر فى وعى الجماهير، فالمتحف له وضع خاص فهو يعبر عن جوهر الهوية المصرية واعتزازنا بأننا أبناء هذه الحضارة فى كل ماخلفته من أثر فى العلم فى الفن، فى المنظومة الأخلاقية، وما ورد ذكره فى كتاب الموتى الحفاظ على مياه النهر احترام الزوجة الصدق، احترام الجيران، منظومة القيم التى أسست لهذه الدولة ولهذه الحضارة، القوانين والعدل.. يحق للمصرى الفخر بانتمائه لهذه الحضارة فهو مزيج تراكمى أثر على الشخصية المصرية مرورًا بحضارة اليونان والرومان والحضارة العربية والإسلامية كلها حضارات أثرت فى تكوين الشخصية المصرية وسلوكها تراكميًا.
ورش تعليم الهيروغليفية
الافتتاح كان للمصريين بتصميمه الرائع وطريقة العرض مصدر فخر أيقظ وعيهم بالجذور وأعتقد أن الأعمال الفنية فى السينما المصرية والعالمية ستتأثر بالحضارة المصرية القديمة وستكون ملهمة لما تعرضه من قصص، ولذلك فأنا أوجه دعوة للقائمين على إدارة المتحف ووزارة الثقافة أن تقيم ورش عمل باستمرار لتعليم اللغة المصرية القديمة ليكون كل من لديه الرغبة فى الإطلاع على ثقافة المصريين القدماء فرصة لقراءة النصوص القديمة والاستمتاع بمحتواها الثقافى والعلمى.
وتقترح د.أمانى فؤاد موضوعًا للنقاش المجتمعى تتبناه الصحف القومية كحملة لإعادة تقييم المشهد السياحى المصرى من خلال التوعية بأهمية السياحة، وغرْس الوعى الاقتصادى، فالسائح شريك فى الدَّخل القومى. المستوى الثاني: تطوير القوانين وتفعيل الرقابة (الردع والحماية)، وتغليظ عقوبات «المضايقات السياحية». المستوى الثالث: المسئولية الجماعية، من خلال مبادرات مجتمعية لتغيير السلوك، وتشجيع المجتمع المَحلى على تحمُّل مسئولية سُمعة بلده السياحية. مثل إطلاق برامج تشجِّع الشباب والسكان المحليين على أن يصبحوا سفراء لبلدهم؛ من خلال مساعدة السائحين دون مقابل، وتوجيههم بشكل صحيح. وجعْل السائح جزءًا من المجتمع، بتنظيم فعاليات ومهرجانات محلية مفتوحة ومرحب فيها بالسائحين بعيدًا عن الأماكن الأثرية المغلَقة، تنظيف وتجميل البيئة المحيطة ليشعر المواطن بالفخر بنظافة وجمال مدينته؛ ويصبح أكثر حرصًا على إظهارها بأفضل شكل للزوار.
وأخيرًا ترسيخ فكرة أن كل معاملة كريمة للسائح تعنى مستقبلًا اقتصاديًّا أفضل للمواطن ولأولاده؛ وقتها يتحول الاحترام من واجب أخلاقى إلى استثمار ذاتى ومصلحة مباشرة.
ويرى الكاتب المسرحى محمد عبدالحافظ ناصف مستشار الشئون الفنية والثقافية لرئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة أن المتحف المصرى الكبير فى حد ذاته يقع فى دائرة المشاريع الوطنية وهو ما يجعل المصريين يلتفون حوله قلبًا وقالبًا مثل السد العالى مصدر خير كبير للشعب المصرى فهو اقتصاديًا مصدر للدخل القومى، القضية ليست تذكرة المتحف وإنما فى نشاط حركة السياحة وهى مصدر حيوى للدخل لمعظم العاملين فيها إشغال للفنادق والطيران والمطاعم فضلا عن كونه يجمع جزءا من آثار مصر فى مكان واحد وهو ما يرفع من حالة الوعى بحضارة مصر القديمة وهو ما يمنح المصريين أملا فى مستقبل أكثر إشراقًا.
متحف الطفل
وأبدى ناصف إعجابه بفكرة متحف الطفل وتواصل الطفل مع حضارة بلده وثقافته والإطلاع على حياة جده وهو طفل وتفاصيلها أكله وشربه كتابته ورسوماته، التعايش مع منظومة القيم والأخلاق لا تكذب، لا تسرق، لا تلوث ماء النهر بعيدًا عن مكتسبات العصر على مواقع التواصل الاجتماعى باختصار متحف الطفل عامل تفاعلى يصل بين الطفل وجذوره وثقافته ويرسخ لشخصية طبيعية سليمة.
ويضيف ناصف أسعدنى ظهور الأسر المصرية بمختلف طبقاتها وثقافتها فى محفل واحد والصورة الملتقطة لرجل وزوجته بالجلباب المصرى الأصيل رجل مثقف خرج فى نزهة مع زوجته لترى صرحا ثقافيا جديدا وهو ما يدل على قمة الوعى بين جميع طبقات المجتمع بأهمية المتحف، أما الجلباب فهو الزى المصرى الرسمى لأهل الدلتا والصعيد باختلاف فاتحة الصدر وما دون ذلك فى عرف المصريين لبس «أفرنجى».
عودة للقراءة
ويرى د. أحمد الخميسى أن الأثر الحقيقى على المصريين يتمثل فى عودتهم للقراءة ومع الأسف أسعار الكتب فى أيامنا ليست فى متناول الجميع فارتفاع الأسعار وزخم الحياة وطاحونة المشاغل اليومية باعدت بين المصريين والقراءة وهو أمر خطير.. الاطلاع على الحضارة والثقافة أمر عظيم لكن ينقصه الرغبة فى الاطلاع والمعرفة وأن تكون المعرفة فى متناول الجميع والحياة أيسر من ذلك فى إيقاعها وازدحامها.. كلنا أمل أن يعود المصريون للقراءة وشغف المعرفة ليتغير وجه الحياة للأفضل، وقتها يكون المستقبل أكثر إلهاما من الماضى ويصنع المصرى أسطورته الخاصة.






