الخميس 11 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الاقتصاد الرقمى.. جناح التنمية فى العالم

 



 فى قلب سباق عالمى محموم نحو المستقبل، تشهد مصر واحدة من أكبر التحولات الاقتصادية فى تاريخها الحديث، تحولًا لا يقوم على البنية التحتية التقليدية وحدها، ولا على المصانع والمشروعات الاستثمارية فحسب، بل على قوة جديدة أصبحت المحرك الرئيسى للاقتصاد العالمى ممثلة فى الاقتصاد الرقمى، فهذا المفهوم، الذى كان يومًا ما مجرد مصطلح أكاديمى، تحول اليوم إلى واقع ملموس يعيشه المواطن يوميًا فى الخدمات الحكومية، والمعاملات البنكية، والشراء عبر الإنترنت، وحتى فى الطريقة التى تدير بها الدولة مواردها ومشروعاتها.

ووفقًا لخبراء الاقتصاد، يعرف الاقتصاد الرقمى بأنه النظام الاقتصادى الذى يعتمد على التكنولوجيا الرقمية كركيزة أساسية فى الإنتاج، والتوزيع، وتقديم الخدمات، واتخاذ القرار، وإدارة الموارد، ويشمل ذلك الذكاء الاصطناعى، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، والمدفوعات الإلكترونية، والمنصات الرقمية بمختلف أنواعها.

وفى مصر، أصبح الاقتصاد الرقمى ليس مجرد قطاع مُستقل، بل آلية استراتيجية لدفع عجلة التنمية، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وجذب الاستثمارات، وتحسين جودة الخدمات العامة والخاصة على حد سواء.

كيف تبنت مصر الاقتصاد الرقمى؟

اعتمدت الدولة خلال السنوات الماضية، استراتيجية شاملة للتحول الرقمى، بدأت ببنية تحتية قوية للاتصالات والإنترنت، مرورًا بإطلاق خدمات حكومية رقمية، وصولًا إلى إنشاء منصات موحدة لتقديم الخدمات للمواطنين، وتطوير التشريعات الداعمة للاقتصاد الرقمى.

ومن أبرز خطوات تبنى الاقتصاد الرقمى فى مصر، بناء بنية تحتية رقمية قوية، إذ شهد قطاع الاتصالات استثمارات ضخمة فى شبكات الإنترنت الأرضى والمحمول، ما أدى إلى تحسين السرعات وزيادة الاعتمادية، كما تم توسيع شبكات الألياف الضوئية، وربط آلاف المؤسسات الحكومية بنظام رقمى موحد، بجانب إطلاق منصات حكومية رقمية، منها منصة «مصر الرقمية» التى أصبحت بوابة تحتوى على أكثر من 200 خدمة حكومية، منها استخراج الوثائق الرسمية، وإصدار التراخيص، وسداد الرسوم، وتقديم الطلبات والشكاوى، دون الحاجة للذهاب لأى جهة حكومية، فضلًا عن دعم الشمول المالى، إذ توسعت الدولة فى نشر المحافظ الإلكترونية، والمدفوعات الرقمية، وتفعيل دور البنوك الرقمية، إلى جانب تشجيع المواطنين على استخدام وسائل الدفع الإلكترونى فى المشتريات والخدمات، علاوة على الاستثمار فى التكنولوجيا والمهارات، حيث كثفت الدولة برامج التدريب على المهارات الرقمية للشباب، عبر مبادرات مثل «رواد تكنولوجيا المستقبل» و«مستقبلنا رقمى»، بهدف خلق جيل قادر على قيادة التحول الرقمى، بالإضافة لتطوير التشريعات المنظمة، فقد صدر قانون حماية البيانات الشخصية، وتم التوسع فى قوانين التجارة الإلكترونية والجرائم الإلكترونية، لضمان بيئة آمنة للنمو الرقمى.

ويُعد الاقتصاد الرقمى واسعًا ومتداخلًا مع مختلف القطاعات، لكنه فى مصر برز بشكل خاص فى عدة مجالات: هى الخدمات الحكومية الذكية، حيث أصبح المواطن قادرًا على أداء عشرات الخدمات إلكترونيًا دون الانتقال بين المصالح الحكومية، مما أسهم فى خفض وقت الانتظار، وتقليل الاحتكاك المباشر، والحد من البيروقراطية.

إضافة إلى ذلك، فقد شهدت التجارة الإلكترونية فى مصر طفرة كبيرة فى التسوق عبر الإنترنت، سواء عبر المواقع المحلية أو العالمية، وتضاعف حجم سوق التجارة الإلكترونية خلال السنوات الأخيرة ليصبح من أهم مصادر النمو الاقتصادى، فمع التكنولوجيا المالية تطورت خدمات الدفع الإلكترونى، البطاقات الذكية، المحافظ الرقمية، والتمويل عبر المنصات، ما أدى إلى توسيع الشمول المالى، وإدماج فئات من المجتمع لم تكن تتعامل مع النظام المصرفى التقليدى، فضلًا عن توظيف الذكاء الاصطناعى والبيانات الضخمة، حيث أصبحت الوزارات والهيئات الحكومية تعتمد على نظم تحليل البيانات لاتخاذ القرارات، والتنبؤ بالأزمات، وإدارة الموارد بكفاءة أكبر.

وفيما يخص مجالات التعليم الرقمى، تم تطوير منصة «بنك المعرفة المصرى» ومنصات تعليم تفاعلية، وتم إدخال التكنولوجيا فى العملية التعليمية، ما أسهم فى تحسين جودة التعليم وتوسيع فرص التعلم، ناهيك عن «الصحة الرقمية»، فخلال جائحة كورونا، ظهرت قوة القطاع الصحى الرقمى، من خلال تطبيقات متابعة الحالات، والمنصات الطبية الإلكترونية، والتوسع فى ميكنة المستشفيات.

الاقتصاد الرقمى وجودة الخدمات

لم يكن التحول الرقمى مجرد تطوير للنظام الحكومى، بل أدى إلى تحول كبير فى تجربة المواطن، وأصبح تأثيره ملموسا فى الحياة اليومية فى عدة اتجاهات: هى تسريع الإجراءات الحكومية، حيث أصبحت الخدمات التى كانت تتطلب أيامًا أو أسابيع تتم الآن فى دقائق عبر الإنترنت، على سبيل المثال، استخراج شهادة ميلاد أو سداد فواتير حكومية أو تقديم طلبات التصالح أصبح يتم بضغطة زر، بالإضافة لتقليل الازدحام والضغط على المؤسسات، علاوة على مساهمة الخدمات الرقمية فى تخفيف الضغط على المصالح الحكومية، وتقليل الازدحام وتحسين بيئة العمل داخل المؤسسات.

كما عملت «الرقمنة» على تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، وتحسين دقة البيانات الحكومية، فقد أصبحت البيانات تجمع إلكترونيًا وتحدث باستمرار، ما ساعد الدولة على رسم سياسات دقيقة وتطوير الخدمات بناء على احتياجات المواطنين الفعلية، ناهيك عن توفير الوقت والجهد على المواطن، فلم يعد المواطن مضطرًا للانتقال لمسافات طويلة لإتمام معاملة، وأصبح الهاتف المحمول وسيلة فعالة لإنجاز أغلب الخدمات الحكومية والخاصة، وتسهيل الوصول للخدمات فى المناطق الريفية، حيث أتاحت المنصات الرقمية للمواطنين فى المحافظات والقرى نفس مستوى الخدمات المتاح فى المدن، ما أسهم فى تعزيز العدالة الاجتماعية.

بينما أكد خبراء الاقتصاد، ارتفاع مستوى رضا المواطنين عن الخدمات الحكومية بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، بما يتراوح بين %10 إلى %40 فى بعض الخدمات الرقمية.

ويرجع هذا الارتفاع، إلى ثلاثة عوامل أساسية ممثلة فى الخدمة أصبحت أسرع وأكثر كفاءة، وهو ما نجح التحول الرقمى فى توفيره، كما أنه مع التكلفة الأقل والإجراءات الأبسط وفرت الخدمات الرقمية تكاليف الانتقال والمستندات الورقية، مع تجربة استخدام سهلة عبر التطبيقات والمنصات الحكومية التى تم تصميمها بعناصر بسيطة تناسب جميع الفئات.

مستقبل الاقتصاد الرقمى

تشير الاتجاهات الحالية، إلى أن الاقتصاد الرقمى سيصبح فى السنوات المقبلة أحد أهم موارد النمو فى مصر، خاصة مع توجه الدولة لتوسيع المدن الذكية ومراكز البيانات والصناعات الرقمية والتجارة الإلكترونية وخدمات الذكاء الاصطناعى وتوسع البنوك الرقمية، كما تسعى الحكومة إلى بناء مجتمع يعتمد على المعرفة، ويستخدم التكنولوجيا فى كل تفاصيل حياته اليومية، بداية من التعليم، مرورًا بالصحة، وصولًا إلى إدارة الأعمال والمشروعات الصغيرة.

فالاقتصاد الرقمى لم يعد خيارًا، بل ضرورة فرضها التطور العالمى، وفى مصر، أدى هذا التحول إلى تحسين جودة الخدمات الحكومية وتقليل وقت الإجراءات ورفع مستوى رضا المواطنين وتعزيز الشفافية وتحسين كفاءة مؤسسات الدولة، ومع استمرار الدولة فى الاستثمار فى التكنولوجيا والتحول الرقمى، من المتوقع أن يشهد المواطن خلال السنوات المقبلة خدمات أكثر تطورًا، وتجربة أكثر سلاسة، واقتصادًا أكثر قدرة على المنافسة عالميًا.

من جانبه أوضح د.عبد الوهاب غنيم، نائب رئيس الاتحاد العربى للاقتصاد الرقمى بجامعة الدول العربية، أن الاقتصاد الرقمى يقوم بالأساس على تطبيقات الإنترنت، وفى مقدمتها التجارة الإلكترونية والمنظومات الحكومية الخاصة بتخطيط الموارد المؤسسية، مثل النظم المحاسبية، ونظم الضرائب والمشتريات، والتدريب والموارد البشرية، مشيرًا إلى أن التجارة الإلكترونية تمثل الركيزة الأكبر فى هذا الاقتصاد.

وأضاف «غنيم»: إن الاقتصاد الرقمى يقوم على ربط أربعة مكونات رئيسية معًا، تشمل الأفراد والأجهزة والتطبيقات والمدفوعات الرقمية، لتشكيل منظومة مترابطة تدفع عجلة النمو العالمى، كاشفًا أن حجم الاقتصاد العالمى خلال العام الجارى بلغ نحو 117 تريليون دولار، استحوذ الاقتصاد الرقمى منها على نحو 55 تريليون دولار، وفى المقابل، بلغ حجم الاقتصاد العربى – فى 22 دولة عربية بما فيها الدول النفطية – حوالى 3.8 تريليون دولار فقط.

وأشار نائب رئيس الاتحاد العربى للاقتصاد الرقمى، إلى أن التجارة الإلكترونية تُعد المكوّن الأهم داخل الاقتصاد الرقمى عالميًا، حيث وصل حجمها، وفقًا لتقديرات منظمة «الأونكتاد»، إلى نحو 30 تريليون دولار، لافتًا إلى أن الدول الأكثر تقدمًا فى هذا المجال هى تلك التى استثمرت مبكرًا فى بنية تحتية رقمية قوية، تشمل إنترنت فائق السرعة، وتعليمًا جيدًا، وثقافة تكنولوجية واسعة، إلى جانب منصات حكومية متطورة ووسائل دفع رقمية ومنصات تجارة إلكترونية متنوعة.

وشدد «غنيم»، على أن الدول القادرة على التحول من الاقتصاد التقليدى إلى الاقتصاد الرقمى ستشهد قفزات تنموية سريعة، مؤكدًا أن «الاقتصاد الرقمى أصبح جناح التنمية فى العالم.. ومن لا يوظف التكنولوجيا لن يحقق النمو».

وفى السياق ذاته، أكد أن التجربة المصرية تُعد نموذجًا مهمًا فى هذا المضمار، بدءًا من إطلاق السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى مبادرة التحول الرقمى، مرورًا بالجهود الحكومية الضخمة لتطوير البنية التحتية الرقمية، متابعًا: «مصر دولة ذات تاريخ طويل فى مجال الاتصالات منذ عهد محمد على، وقد بدأت الحكومة فى استبدال الكابلات النحاسية القديمة بالألياف الضوئية، وربطت نحو 32 ألف مبنى حكومى بكابلات فائقة السرعة فى المحافظات، كما أطلقت القمر الصناعى (طيبة 1) لتوفير إنترنت فائق السرعة عريض النطاق للمناطق الحدودية».

 وأضاف: إن سرعة الإنترنت فى مصر قفزت من 5 ميجابت/ثانية عام 2018 إلى أكثر من 90 ميجابت/ ثانية حالياً، لتصبح الدولة الأولى عربيًا فى سرعة الإنترنت الثابت، رغم أن البنية التحتية ما زالت فى طور التطوير للوصول إلى المعايير العالمية، مشيرًا إلى الاجتماع الأخير للرئيس السيسى مع أكثر من 50 شركة تكنولوجية عالمية لبحث التوسع فى صناعة التعهيد، وهى الصناعة التى تتطلب استثمارات بمليارات الدولارات لتشغيل الكفاءات الفنية المصرية.

 وأوضح أن مصر تحتضن نحو 200 مركز عالمى للتعهيد فى المعادى والقرية الذكية ومدينة نصر، يعمل بها أكثر من 200 ألف شاب وفتاة برواتب تنافسية، وتدر هذه الصناعة عوائد تقدر بنحو 9 مليارات دولار سنويًا، متجاوزة إيرادات قناة السويس، كما تسهم فى زيادة الناتج المحلى وتوفر العملة الصعبة، مؤكدًا أن الرئيس السيسى ناقش مع الشركات العالمية إمكانية رفع عائدات صناعة التعهيد إلى أكثر من 25 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، بما يعزز مكانة مصر كمركز إقليمى لخدمات التكنولوجيا.

وأوضح «غنيم»، أن التحول إلى الاقتصاد الرقمى فى مصر انعكس بشكل مباشر على جودة حياة المواطنين، حيث سهلت البنية التحتية الرقمية الجديدة إجراءات سداد الخدمات الحكومية والمشتريات والمدفوعات عبر الوسائل الإلكترونية، مضيفًا إن حجم التجارة الإلكترونية فى مصر يبلغ نحو 60 مليار جنيه، وينمو بوتيرة غير مسبوقة.

كما أشار إلى القفزة الكبيرة فى معدلات الشمول المالى فى مصر، إذ ارتفعت نسبته من %37 إلى %76، مقتربة من المتوسط العالمى، بفضل التوسع الكبير فى المدفوعات الرقمية والخدمات البنكية الإلكترونية.