أرجوك.. لا تعض رغيفى!

خالد وصيف
خالد وصيف يكتب:
.من دون كل الدول الناطقة بالعربية، الخبز هو العيش عند المصريين، والعيش هو الحياة، أغلى ما يمتلك الانسان ويدافع عنه، وهو فى نفس الوقت ابسط الاحتياجات لاقامة الاود والاحتفاظ بالانفاس تتردد داخل الصدور، ليس اللحم أو الأسماك، ولا الفاكهة ولا الحلويات، عيش وفقط، يكفى المصرى ويملأ معدته، يلتهمه حافا أو بعد غمسه فى قليل من الملح، ويجعله ينام قرير العين هو وزوجته وأولاده. ومنذ سنوات قليلة، قبل انتشار الأفران الآلية، كان الفلاح المصرى حريصا على تخزين القمح فى صومعة طينية اعلى منزله، ليضمن توافر الدقيق للخبز طوال العام، فإذا توافر الخبز يهون كل شىء.
العيش والملح، وجبة فاخرة عند المصرى، ويعتبر ان من يشاركه طعامه قد عقد معه وثيقة الأمان والإخاء، فقد أصبح ما بينهما هو عيش وملح، وفى مقابر قدماء المصريين كانت الأوانى الممتلئة بالقمح لزوم اطعام الميت بعد بعثه. والمصرى صبور إلا على الرغيف، بسببه قامت انتفاضة واسعة فى عام 1978عرفت بانتفاضة الخبز، ومن اجل الرغيف ثار المصريون مرات متعددة خلال تاريخهم الطويل، وشعارهم الأثير هو: عض قلبى ولا تعض رغيفى!
من هنا نتفهم الاهتمام الكبير الذى أولاه حكام مصر لتحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح، بالرغم ان الاستيراد ارخص سعرا، لكنه تراثنا القديم فى الحفاظ على مخزون الخبز اعلى البيت. وقد طفت على السطح مؤخرًا قضية كبيرة لفساد القمح المرتبط برغيف الخبز. والمثير ان كثيرا من تفاصيل القضية الحالية قد تكرر مرات متعددة فى تاريخنا القديم، واذهب الى المقريزى شيخ المؤرخين المصريين الذى ذكر فى كتبه ثلاث ازمات للقمح فى العهد الفاطمى الذى امتد قرابة المائتى عام.
خلال فترة الحاكم بأمر الله، وقعت مجاعة فى مصر. واجتمعت طوائف الشعب عند قصر الحاكم بامر الله يشتكون من قلة الخبز، تقصى الحاكم الأسباب فوجدها تعود لتخزين التجار للقمح والشعير. فضرب جماعة منهم بالسياط وأمر ألا يباع القمح الا للطحانين، وأمر بكبس الحواصل والبيوت للبحث عن القمح، وركب حماره وقال للناس: أنا ذاهب للصلاة فلئن عدت فوجدت فى الطريق موضعا مكشوفا من الغلة سأقطع رقبة كل من يقال ان لديه شىء منها ولاحرق داره. سارع التجار والمحتكرون يحملون القمح على الدواب ويسارعون بها على الطرقات، وعند عودة الحاكم بأمر الله من المسجد، ما بقى من اهل القاهرة وعنده غلة حتى حملها من بيته وشونها فى الطرقات.
ووقعت مجاعة عظيمة فى عهد الظاهر لدين الله (1020-1035م) امتدت عامين كاملين بسبب نقص فيضان النيل، فتعذر وجود الخبز فى الاسواق وازدحم الناس على الشراء، واحجم التجار عن بيع الغلال، فارتفعت الأسعار. تجمع المصريون فى صحن مسجد عمرو بن العاص، وخرجوا فى مظاهرات ساخطة فى شوارع الفسطاط، مطالبين بتوافر الخبز فى الأسواق، واعترضوا موكب الخليفة الظاهر صائحين فى وجهه: الجوع الجوع يا أمير المؤمنين.
أمر الخليفة الظاهر بعزل المحتسب (وزير التموين حينذاك) وتعيين محتسب جديد على الأسواق والسواحل. نزل المحتسب الجديد إلى شوارع القاهرة واحضر الخبازين وتجار الدقيق وضرب بعضهم وشهر بالآخرين، فخاف التجار، وانخفضت الاسعار قليلا وبدأت تظهر الغلال فى الاسواق. لكن الازمة عادت اشد قسوة. فأمر المحتسب بفتح مخازن رجال الدولة، كما ضيق على الطحانين الذين باعوا الدقيق بسعر مرتفع، والزمهم بترك عملهم فى طحن الغلال، وختم على مخازنهم فأفلست طواحينهم، وجعلهم خبازين فقط (فصل الخبز عن التوزيع).
كما وقعت شدة عظمى أيام الخليفة المستنصر بالله، واستمرت سبع سنوات انخفض فيها منسوب النيل. وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.
بحث الخليفة المستنصر بالله للخروج من هذه الأزمة العاتية عن شخصية قوية ذات كفاءة لتولى الوزارة، فأشار مستشاروه بالأمير بدر الدين الجمالى الذى كان يتولى إمارة عكا، استعان به وكان عند حسن الظن، بدأ الجمالى فى إعادة النظام إلى القاهرة وفرض الأمن والسكينة فى ربوعها، وامتدت يده إلى بقية أقاليم مصر فأعاد إليها الهدوء والاستقرار، وفى الوقت نفسه عمل على تنظيم شئون الدولة وإنعاش اقتصادها، فشجع الفلاحين على الزراعة برفع جميع الأعباء المالية عنهم، وأصلح لهم الترع والجسور، وأدى انتظام النظام الزراعى إلى كثرة الحبوب، وتراجع الأسعار.
يبدو أن مشكلاتنا قديمة وتتكرر فى دورات مثل دورات فيضان النيل، وعلينا أيضا البحث عن حلول مشابهة كالتى لجأ إليها القدماء.
خبير موارد مائية