الإثنين 27 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إبراهيم ناجى... طبيب الرومانسية




يعد ابراهيم ناجى «ديسمبر 1898- 1953» أحد فرسان مدرسة أبوللو التى ثارت على جماعة الديوان الشعرية، واتهمتهم بأنهم يلهثون وراء مقابح الفلسفة، وبأن ساحتهم فى الشعر التفكير لا الإحساس، ومن هنا يأتى شعرهم غامضا وغير مؤثر، وعلى وجه التحديد هو شعر العقل والذكاء لا العاطفة، وبالطبع كان العقاد يرمى شعراء «أبوللو» بالتراخى المريض، وأن شعرهم فى جملته أشبه بأغانى المقاهى والملاهى وأنه خواء وهباء، فقد وضح فى النتاج الشعرى أن شعر العقاد أميل الى الذهنية فى كثير من نماذجه، بينما شعر جماعة أبوللو أميل الى السهولة والرقة والتوهج العاطفى، لا سيما عن عملاق هذا الاتجاه الدكتور ابراهيم ناجى الذى يعد مهندس اللغة الشعرية، اذ إن شغله الشاغل كان نقش الكلمة وصقل شكلها، وفى الواقع ان ابراهيم ناجى من الشعراء المتذوقين للجمال الذين يندر وجودهم فى جيله، وخطاب الحب عند ابراهيم ناجى تأسس على نماذج تشبيهية مأخوذة من الطبيعة والكون تعبيرا عن رمزية الحب الطاهر والصافى الذى لا يشوبه اضطراب أو قلق.
 
وفيما يتعلق بالعطاء الشعرى الذى نشره ناجى فى دواوين، فإنه لم يصدر طيلة حياته سوى ديوانين هما: وراء الغمام 1934، وليالى القاهرة 1950، ثم أصدر له صديقه الشاعر أحمد رامى ديوانه الثالث: الطائر الجريح عام 1957، وعهدت وزارة الثقافة والارشاد القومى عام 1960 الى كل من أحمد رامى وصالح جودت والدكتور أحمد هيكل ومحمد ناجى بمهمة إصدار ديوان ناجى الذى صدر بالفعل عام 1960.
 
ويذكر ابراهيم ناجى أنه قد عشق الشعر منذ ان كان صبيا صغيرا، وهو يقدم احدى قصائد ديوانه الأول (وراء الغمام) بكلمات نثرية يقول فيها عن تلك القصيدة، وهى قصيدة (على البحر): إنها من شعر الصبا قاله الناظم فى الثالثة عشرة من عمره. وبداية اهتمامه بنشر قصائده فى الجرائد والمجلات ترجع الى شهر نوفمبر عام 1921، بعد ان فرغ من دراسة الطب وكان يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما وكانت اولى القصائد التى نشرت له بعنوان (مناجاة الهاجر)، لكن قصيدة (المآب) التى نشرت فى مجلة الهلال عام 1931 لفتت انتباه محبى الشعر الى ناجى ، وهذا ما يشير اليه احمد الصاوى محمد فى مقدمته لديوان (وراء الغمام). وفى سبتمبر 1932 نشرت مجلة أبوللو أكثر قصائد ناجى شهرة لدى محبى الشعر وهى قصيدة (العودة)، والتى توالت بعدها روائع أخرى كثيرة حققت لناجى مكانة مرموقة على امتداد الساحة الادبية العربية... فى ذكرى ميلاده.
 
 «روزاليوسف» تحتفل بشاعر الرومانسية بنشر عدد من قصائده.
 
 
مصر
 
أَجلْ إن ذا يوم لمن يفتدى مصرا
 
أجل إن ماءَ النيلِ قد مرَّ طعمُه
 
فهلا وقفتم دونها تمنحونها
 
سلاماً شباب النيل فى كل موقف
 
تعالوا فقد حانتْ أمورٌ عظيمةٌ
 
تعالوا نشيّدْ ملجأ، رب ملجأ
 
تعالوا نشيّدْ مصنعاً رب مصنعٍ
 
تعالوا لنمحو الجهلَ والعللَ التي
 
تعالوا نقلْ للصعب أهلا فإننا
 
شبابٌ اذا نامت عيونٌ فإننا
 
شبابٌ نزلنا حومةَ المجدِ كلناَ
 
فمصر هى المحرابُ والجنةُ الكبرى
 
تناوشه الفتاكُ لم يدعو شبرا
 
أكفاً كماء المزنِ تمطرها خيرا
 
على الدهر يجنى المجد أو يجلب الفخرا
 
فلا كان منا غافلٌ يصم العصرا
 
يضم حطامَ البؤسِ والأوجهَ الصفرا
 
يدر على صُناعنا المغنمَ الوفرا
 
أحاطتْ بنا كالسيل تغمرُنا غمرا
 
شبابٌ ألفنا الصعبَ والمطلبَ الوعرا
 
بكرنا بكورَ الطيرِ نستقبل الفجرا
 
ومن يغتدى للنصر ينتزعُ النصرا
 
 

 
 
العـــــودة
 
هذه الكعبةُ كنّا طائفيها
 
كم سجدنا وعبدنا الحسنَ فيها
 
دارُ أحلامى وحبّى لقيتْنا
 
أنكرتْنا وهْى كانتْ إن رأتْنا
 
رفْرَفَ القلبُ بجنبى كالذبيحْ
 
فيجيب الدمعُ والماضى الجريحْ
 
لِمَ عُدنا؟ أَوَ لم نطوِ الغرامْ
 
ورضينا بسكون وسلامْ
 
أيها الوكرُ إذا طار الأليفْ
 
ويرى الأيام صُفراً كالخريفْ
 
آهِ مما صنع الدهرُ بنا
 
الخيالُ المطرقُ الرأسِ أنا؟
 
أين ناديكَ وأين السمرُ
 
كلّما أرسلتُ عينى تنظرُ
 
مَوْطِنُ الحسن ثوى فيه السأمْ
 
وأناخ الليلُ فيه وجثمْ
 
والبِلى! أبصرتُه رأيَ العيانْ
 
صحتُ يا ويحكَ تبدو فى مكانْ
 
كلُّ شيءٍ من سرور وحَزَنْ
 
وأنا أسمع أقدامَ الزمنْ
 
رُكْنِيَ الحانى ومغنايَ الشفيقْ
 
علم اللّه لقد طال الطريقْ
 
وعلى بابكَ أُلقى جعبتي
 
فيكَ كفَّ الله عنّى غربتي
 
وطنى أنتَ ولكنّى طريدْ
 
فإذا عدتُ فللنجوى أعودْ
 
والمصلّين صباحاً ومساءَ
 
كيف باللّه رجعنا غرباء
 
فى جمود مثلما تلقى الجديدْ
 
يضحك النورُ إلينا من بعيدْ
 
وأنا أهتف: يا قلبُ اتّئدْ
 
لِمَ عُدنا؟ ليت أنّا لم نعد !
 
وفرغنا من حنين وألمْ
 
 
وانتهينا لفراغ كالعدم؟!
 
لا يرى الآخرُ معنًى للمساءْ
 
نائحات كرياح الصَّحراء
 
أَوَ هذا الطللُ العابس أنتَ !
 
شدَّ ما بتْنا على الضنك وبتَّ !
 
أين أهلوكَ بساطاً وندامى
 
وثبَ الدمعُ إلى عينى وغاما
 
وسرتْ أنفاسُه فى جوِّهِ
 
وجرَتْ أشباحُه فى بهوهِ
 
ويداه تنسجان العنكبوتْ
 
كلُّ شيءٍ فيه حيٌّ لا يموتْ !
 
والليالى من بهيجٍ وشَجِى
 
وخطى الوحدةِ فوق الدرجِ
 
وظلال الخلدِ للعانى الطليحْ
 
وأنا جئتكَ كيما أستريح
 
كغريب آب من وادى المِحنْ !
 
ورسا رَحْلى على أرض الوطن !
 
أبديُّ النفيِ فى عالَم بؤسى !
 
ثم أمضى بعدما أُفرغ كأسى !
 
 

 
 
ذات مساء
 
وانتحينا معا مكاناً قصياً
 
سألتنى مللتنا أم تبدلتَ
 
قلت هيهات! كم لعينيكِ عندي
 
انا ما عشت أدفع الدين شوقا
 
وقصيداً مجلجلاً كل بيتٍ
 
ذاك عهدى لكن قلبك لم يقض
 
والوعودُ التى وعدتِ فؤادي
 
نتهادى الحديث أخذاً وردّا 
 
سوانا هوىً عنيفاً ووجدا 
 
من جميلٍ كم بات يهدى ويسدى 
 
وحنينا إلى حماكِ وسهدا 
 
خلفَه ألفُ عاصفٍ ليس يهدا 
 
ديونَ الهوى ولم يرعَ عهدا 
 
لا أرانى أعيش حتى تؤدَّى
 

 
 
الأطلال
 
 
يا فؤادى، رحم الله الهوى
 
اسقنى واشرب على أطلاله
 
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
 
وبساطاً من ندامى حلم
 
يا رياحاً، ليس يهدا عصفها
 
وأنا أقتات من وهم عفا
 
كم تقلبت على خنجره
 
وإذا القلب - على غفرانه -
 
يا غراماً كان منى فى دمى
 
ما قضينا ساعة فى عرسه
 
ما انتزاعى دمعة من عينه
 
ليت شعرى أين منه مهربى
 
لست أنساك وقد ناديتني
 
ويد تمتد نحوي، كيد من
 
آه يا قبلة أقدامي، إذا
 
وبريقاً يظمأ السارى له
 
لست أنساك، وقد أغريتني
 
أنت روح فى سمائي، وأنا
 
يا لها من قمم كنا بها
 
نستشف الغيب من أبراجها
 
 
أنت حسن فى ضحاه لم يزل
 
وبقايا الظل من ركب رحل
 
ألمح الدنيا بعينى سئم
 
راقصات فوق أشلاء الهوى
 
ذهب العمر هباء، فاذهبي
 
صفحة قد ذهب الدهر بها
 
انظرى ضحكى ورقصي
 
ويرانى الناس روحا طائراً
 
كنت تمثال خيالي، فهوى
 
ويحها، لم تدر ماذا حطمت
 
يا حياة اليائس المنفرد
 
يا قفاراً لافحات ما بها
 
أين من عينى حبيب ساحر
 
واثق الخطوة يمشى ملكاً
 
عبق السحر كأنفاس الربى
 
أين منى مجلس أنت به
 
وأنا حب وقلب ودم
 
ومن الشوق رسول بيننا
 
وسقانا، فانتفضنا لحظة
 
كان صرحا من خيال فهوى
 
وارو عني، طالما الدمع روى
 
وحديثاً من أحاديث الجوى
 
هم تواروا أبداً، وهو انطوى
 
نضب الزيت ومصباحى انطفا
 
وأفى العمر لناس ما وفى
 
لا الهوى مال، ولا الجفن غفا
 
كلما غار به النصل عفا
 
قدراً كالموت، أو فى طعمه
 
وقضينا العمر فى مأتمه
 
واغتصابى بسمه من فمه
 
أين يمضى هارب من دمه ؟
 
بفم عذب المناداة رقيق
 
خلال الموج مدت لغريق
 
شكت الأقدام أشواك الطريق
 
أين فى عينيك ذياك البريق ؟
 
بالذرى الشم، فأدمنت الطموح
 
لك أعلو، فكأنى محض روح
 
نتلاقى، وبسرينا نبوح
 
ونرى الناس ظلال فى السفوح
 
وأنا عندى أحزان الطفل
 
وخيوط النور من نجم أفل
 
وأرى حولى أشباح الملل
 
معولات فوق أجداث الأمل
 
لم يكن وعدك إلا شبحا
 
أثبت الحب عليها ومحا
 
فرحا وأنا أحمل قلباً ذبحا
 
والجوى يطحننى طحن الرحى
 
المقادير أرادت لا يدى
 
حطمت تاجي، وهدت معبدى
 
يا يباباً ما به من أحد
 
من نجي، يا سكون الأبد
 
فيه نبل وجلال وحياء
 
ظالم الحسن، شهى الكبرياء
 
لغة النور، وتعبير السماء
 
فتنة تمت سناء وسنى
 
وفراش حائر منك دنا
 
ونديم قدم الكأس لنا
 
لغبار آدمى مسنا!
 
 

 
 
صخرة الملتقى
 
سألتكِ يا صخرةَ الملتقى
 
فيا صخرة جمعت مهجتين
 
إذا الدهر لج بأقداره
 
قرأنا عليك كتاب الحياة
 
نرى الشمس ذائبة فى العباب
 
إذا نشر الغربُ أثوابَه
 
نقول هل الشمس قد خضبته
 
أم الغرب كالقلب دامى الجراح
 
فيا صورة فى نواحى السحاب
 
لنا الله من صورة فى الضمير
 
يرى صورة الجرح طى الفؤاد
 
ويأبى الوفاء عليه اندمالا
 
ويا صخرة العهد أبت أليك
 
أريك مشيبَ الفؤادِ الشهيدِ
 
شكا أسره فى حبال الهوى
 
فلما قضى الحظ فك الأسير
 
متى يجمع الدهرُ ما فرَّقا! 
 
أفاءا إلى حسنها المنتقى
 
أجدا على ظهرها الموثقا
 
وفض الهوى سرها المغلقا 
 
وننتظر البدر فى المرتقى 
 
وأطلق فى النفس ما أطلقا 
 
وخلت به دمها المهرقا 
 
له طلبة عز أن تلحقا 
 
رأينا بها همنا المغرقا 
 
يراهاالفتى كلما أطرقا 
 
مازال ملتهبا محرقا 
 
ويأبى التذكر أن يشفقا 
 
وقد مزق الشمل ما مزقا 
 
والشيبُ ما كلَّل المفرِقا 
 
وود على الله أن يعتقا 
 
حن إلى أسره مطلقا